في يوم الاثنين من رمضان من العام الأربعين من مولد نبينا صلى الله عليه وسلم، وفي غار حراء كانت أعظم لحظة مرت على البشرية، حيث آن أوان البعثة النبوية، وتم أعظم لقاء في حياة الإنسانية، لقاء السماء والأرض، لقاء جبريل عليه السلام مع محمد صلى الله عليه وسلم، فظهرت بشريات الصبح وطلائع السعادة، وأشرق نور الإسلام، قال ابن هشام: "لما بلغ محمد صلى الله عليه وسلم أربعين سنة بعثه الله رحمة للعالمين، وكافة للناس أجمعين بشيراً ونذيراً".
وتحدثنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن بداية نزول الوحي، وموقف ورقة بن نوفل منه فتقول: (أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي هو الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حُبِب إليه الخلوة، وكان يخلو في غار حراء، يتحنث (يتعبد) فيه الليالي ذوات العدد، قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملَك فقال: اقرأ، قلت: (ما أنا بقارئ) قال: (فأخذني، فغطني حتى بلغ مني الجَهد، ثم أرسلني، فقال: (اقرأ) قلت: ما أنا بقارئ، فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: (اقرأ) قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطنى الثالثة، ثم أرسلني، فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} (العلق:1-3)، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على زوجته خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال: (زملوني، زملوني) فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة: (لقد خشيت على نفسي) فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَل، وتكَسب المعدوم، وتَقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت ورقة بن نوفل ابن عمها، وكان امرًأً تنصر بالجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله له أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قدْ عَمِي، فقالت له خديجة: يا ابن عم! اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ما ذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس (جبريل عليه السلام) الذي نزّل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعا (شاباً)، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك، فقال: ( أَوَ مُخرجي هم؟) قال: نعم، لم يأت رجل قَط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً، ثم لم يلبث ورقة أن تُوُفِّيَ) رواه البخاري.
لقد خاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وفزع في بداية نزول الوحي عليه؛ فإنّه لم يعهد ذلك من قبل، ولم يسمع به، وعهْد العرب بالنبوّة والأنبياء بعيد، فخاف على نفسه، ورجع إلى بيته ترتعد فرائصه وقال: (زمّلوني، زمّلوني)، فلم يكن صلى الله عليه وسلم يستشرف النبوة، ولا يتطَّلَّع لها، ولا يحلم بها، ولو كان يتطلع لها لما فزع من نزول الوحي عليه، قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (الشورى:52). قال السعدي: "{مَا كُنْتَ تَدْرِي} أي: قبل نزوله عليك، {مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ} أي: ليس عندك علم بأخبار الكتب السابقة، ولا إيمان وعمل بالشرائع الإلهية، بل كنت أميًّا، لا تخط، ولا تقرأ".
ولما رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خديجة رضي الله عنها خائفاً، وأخبرها بما حدث معه في الغار، وكانت رضي الله عنها -لمكانها منه وعشرتها له- مِن أعرف الناس به، وقد علمت مما رأت من أخلاقه صلى الله عليه وسلم وشمائله ما يؤكّد أنّه المُوَفَق والمؤيّد من الله، المرضيّ في سيرته وسلوكه، وأنَّ من كانت هذه أخلاقه وسيرته، لا يُخاف عليه لمّة من الشيطان، أو أن يكون به مسّ من الجن، فقالت في ثقة وإيمان مطمئنة له: "كلّا! والله ما يخزيك الله أبداً، إنّك لتصل الرّحم، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق".
لقد قالت خديجة رضي الله عنها ذلك اعتماداً على العقل السليم والفطرة الصحيحة، ومعرفتها بخُلُق وفضل وبركة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الأمر كان يحتاج إلى رجل له خبرة بالديانات والنبوّات، ومعرفة بأخبار الأنبياء وعلمهم، ومن ثم رأت أن تستعين في ذلك بابن عمّها ورقة بن نوفل، الذي عنده علم بالأديان السماوية السابقة، فانطلقت برسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، فلما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بما حدث معه في الغار، قال ورقة: "والّذي نفسي بيده! إنّك لنبيّ هذه الأمة، ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى، وإنّ قومك سيكذّبونك، ويؤذونك، ويخرجونك، ويقاتلونك"، وقد تعجّب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال ورقة له ذلك، لمعرفته بحب وتقدير قريش له، فلم يكن ينادونه إلا بالصّادق الأمين، فقال صلى الله عليه وسلم متعجّبا: (أو مخرجيّ هم؟!)، قال ورقة: "نعم، لم يأت رجل قَط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك (طالت بي الحياة) أنصرك نصراً مؤزرا".
آمنت خديجة رضي الله عنها برسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت أوّل من آمن بالله وبرسوله، ووقفت بجواره تؤازره وتثبّته، وتخفّف عنه وتساعده، قال الذهبي عنها: "هي أول من آمن به وصدقه قبل كل أحد، وثبتت جأشه، ومضت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل عندما جاءه جبريل أول مرة في غار حراء، ومناقبها جَمّة، وهي ممن كَمُل من النساء، كانت عاقلة جليلة دينة مصونة من أهل الجنة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يثني عليها، ويفضلها على سائر أمهات المؤمنين".
وكذلك أسلم ورقة بن نوفل وآمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن كثير: "وقولها: ثم لم ينشب ورقة أن توفي، أي: توفي بعد هذه القصة بقليل رحمه الله ورضي عنه، فإن مثل هذا الذي صدر عنه تصديق بما وجد، وإيمان بما حصل من الوحي ونية صالحة للمستقبل". وقال ابن حجر: "فهذا ظاهره أنه أقر بنبوته، ولكنه مات قبل أن يدعو رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الناسَ إلى الإسلام". وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن ورقة من أهل الجنة، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبُّوا ورقة بن نوفل، فإني قدْ رأيتُ له جنة أوْ جنتين) رواه الحاكم وصححه الألباني. قال الحافظ العراقي: "هذا شاهد لما ذهب إليه جَمْعٌ مِن أنَّ ورقة أسلم عند ابتداء الوحي".
وكان ورقة بن نوفل يقول فيما ذكرت له خديجة رضي الله عنها من أمر جبريل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما روى البيهقي في "دلائل النبوة"، وابن كثير في "البداية والنهاية"، والسيوطي في "الخصائص الكبرى" وغيرهم:
يَا لِلرِّجَالِ وَصَرْفِ الدَّهْرِ وَالْقَدَرِ وَمَا لِشَيْءٍ قَضَاهُ اللَّهُ مِنْ غِيَرِ
حَتَّى خَدِيجَةُ تَدْعُونِي لِأُخْبِرَهَا أَمْرًا أُرَاهُ سَيَأْتِي النَّاسَ مِنْ أُخَرِ
وخبرتني بِأَمْرٍ قَدْ سَمِعْتُ بِهِ فِيمَا مَضَى مِنْ قَدِيمِ الدَّهْرِ وَالْعُصُرِ
بِأَنَّ أَحْمَدَ يَأْتِيهِ فَيُخْبِرُهُ جِبْرِيلُ أَنَّكَ مَبْعُوثٌ إِلَى الْبَشَرِ
فَقُلْتُ: عَلَّ الَّذِي تَرْجِينَ يُنْجِزُهُ لَكِ الْإِلَهُ فَرَجِّي الْخَيْرَ وَانْتَظِرِي
وَأَرْسِلِيهِ إِلَيْنَا كَيْ نُسَائِلَهُ عَنْ أَمْرِهِ مَا يَرَى فِي النَّوْمِ وَالسَّهَرِ
فقال حِين أَتَانَا مَنْطِقًا عَجَباً يَقِفُّ مِنْهُ أَعَالِي الْجِلْدِ وَالشَّعَرِ
إِنِّي رَأَيْتُ أَمِينَ اللَّهِ وَاجَهَنِي فِي صُورَةٍ أُكْمِلَتْ مِنْ أَعْظَمِ الصُّوَرِ
ثُمَّ اسْتَمَرَّ فَكَادَ الْخَوْفُ يَذْعَرُنِي مِمَّا يُسَلِّمُ مِنْ حَوْلِي مِنَ الشَّجَرِ
فقُلْتُ: ظَنِّي وَمَا أَدْرِي أَيَصْدُقُنِي أَنْ سَوْفَ يُبْعَثُ يَتْلُو مُنْزَلَ السُّوَرِ
وَسَوْفَ يبليك إِنْ أَعْلَنْتَ دَعْوَتَهُمْ مِن الْجِهَادِ بِلَا مَنٍّ وَلَا كَدَرِ