تتفاوت درجات الناس في الثبات أمام المثيرات فمنهم من تستخفه التوافه فيستحمق على عجل ومنهم من تستفزه الشدائد فيبقى على وقعها الأليم محتفظاً برجاحة فكره وسجاحة خلقه.
ومع أن للطباع الأصيلة في النفس دخلاً كبيراً في أنصبة الناس من الحدة والهدوء والعجلة والأناة والكدر والنقاء ، إلا أن هناك ارتباطاً مؤكداً بين ثقة المرء بنفسه وبين أناته مع الآخرين وتجاوزه عن خطئهم ، فالرجل العظيم حقاً كلما حلق في آفاق الكمال اتسع صدره وامتد حلمه وعذر الناس من أنفسهم والتمس المبررات لأغلاطهم، فإذا عدا عليه غِرٌّ يريد تجريحه نظر إليه من قمته فسبق حلمُه غضبَه ، وغلب صفحه وعفوه انتقامَه لنفسه ، وكظم غيظه ممتثلاً أمر ربه في قوله : {والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين}
معنى الحلم
الحلم : هو الأناة والتثبت في الأمر، وضبط النفس وكظم الغيظ .
فالحليم هو الذي لا يستفزه الغضب ، ولا يتسرع بالعقوبة، بل يتريث، ويتصرف على وفق مقتضيات الحكمة .
والحلم صفة من صفات ربنا فهو الحليم بعباده، (وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً) (الأحزاب:5) ، ومعناه : الصبور الذي لا يستخفه عصيان العصاة ، ولا يستفزه الغضب عليهم فيعجل بالانتقام منهم، ولكن يفسح لهم باب التوبة والندم، أو يمهلهم ليقيم عليهم الحجة، فإذا أخذهم أخذهم، بحق وحكمة، أخذ عزيز مقتدر : " إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته " .
وليس معنى الحلم التباطؤ والكسل، وإنما هو وسط بين طرفين ، وفضيلة بين رذيلتين ، فإذا زاد عن حدُّه كان توانيًا وإهمالاً أو تبلُّدَ طبع، وانعدامه أو ضعفه عجلة وطيش وسرعة غضب، والأصل هو القصد والاعتدال .
الحلم محمود شرعا وعقلا
والحلم خلق محمود شرعًا وعقلاً، فالعقل السليم يدرك خطر الاندفاع وراء العواطف والغرائز ، أو وراء الانفعالات والشهوات، أو وراء كل ما يميل بصاحبه نحو الجنوح والانحراف. كما أنه يعلم فضيلة التأني والتريث، وضبط النفس وعدم العجلة، وما وراء ذلك من منافع جمة، ومقاصد مهمة.
وأما في الشرع ، فيكفي الحلم فضيلة أن يتصف الله تعالى به ويتسمى به ، فالحلم اسم من أسماء الله الحسنى وصفة من صفاته العلا .
وقد امتدح الله رسوله عليه الصلاة والسلام على كل أخلاقه، ومنها الحلم الذي كان شامة في أخلاقه صلى الله عليه وسلم .
روى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه قال : بينا نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد ، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : مه ، مه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تزرموه ( أي لا تقطعوا عليه بوله)، دعوه " قال أنس : فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له : " إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول والقذر، إنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن " . أو كما قال صلى الله عليه وسلم . قال أنس : وأمر رجلاً من القوم فجاء بدلو من ماء فسنَّه ( أي فصبه ) عليه .
وروى الشيخان أيضًا من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : كأني أنظر إلى رسول الله يحكي نبيًا من الأنبياء صلوات الله عليهم ، ضربه قومه فأدموه، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول : اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون " .
فأي شفقة وأي عفو وصفح وحلم يضاهي هذا الحلم إلا حلمه هو نفسه عمن آذوه في ثقيف ، فعرض عليه ملك الجبال أن يطبق عليهم الأخشبين فقال :" بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا " . متفق عليه .
أو حلمه العظيم حين مكنه الله من قريش فعفا وصفح ولم يثرِّب ، بل قال قولته المشهورة : "اذهبوا فأنتم الطلقاء" .
واستقصاء مواقف حلمه تستعصي على المستقصى، وفي مواقف أصحابه وأتباعه بعض إشارة لهذا الجانب من جوانب أخلاقه عليه الصلاة والسلام، إذ منه تعلَّموا وعلى يديه تربوا.
قال معاوية يومًا لابنه : يا بني من عفا ساد، ومن حلم عظُم، ومن تجاوز استمال إليه القلوب .
وقد كان معاوية يعرف بالحلم، وله فيه أخبار مشهورة، وآثار مذكورة ، وكان يقول : إني لآنف أن يكون في الأرض جهل لا يسعه حلمي، وذنب لا يسعه عفوي، وحاجة لا يسعها جودي .. وهذا مروءة عالية المرتبة .
وتغيظ عبد الملك بن مروان على رجل فقال : والله لئن أمكنني الله منه لأفعلن به كذا وكذا ، فلما صار بين يديه قال له : رجاء بن حيوة : يا أمير المؤمنين قد صنع الله ما أحببت فاصنع ما أحب الله . فعفا عنه وأمر له بصلة .
قال الحسن البصري : إن أفضل رداءٍ تردى به الإنسان الحلم، وهو والله عليك أحسن من برد الحبر .
عن معاذ بن جبل عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم : " من كظم غيظًا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره من أي الحور شاء " .
...............................