إذا كان المسلم يحزن ويتألم لما يصيب الأمة الإسلامية من مصائب وابتلاءات، ومن تسلط ومؤامرات الكافرين عليها، وشماتة المنافقين بها، فإن هذا الحزن والألم قد أصاب نبينا صلى الله عليه وسلم وأصحابه في مواطن كثيرة، فما وَهَنَ من عزيمتهم، وما فتَّ في عضدهم، ولا أضعف من ثباتهم على دينهم، والقيام بحق الدعوة إلى الله والجهاد في سبيل الله، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ المُرْسَلِينَ} (الأنعام:34).
لقد واجه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أزمات وابتلاءات شديدة وهم في بداية إقامة الدولة الإسلامية، ففي السنة الثالثة للهجرة أصيبوا في غزوة أُحُدٍ إصابة بليغة، وقُتِل منهم سبعون صحابيًّا، مما كان له الأثر الكبير في إضعاف هيبتهم في نفوس أعدائهم، وظهور الشماتة من اليهود والمنافقين بهم.
وبعد مضي شهران على هذه الغزوة، تهيأ بنو أسد للإغارة على المدينة المنورة، ثم قامت قبائل عَضَل وقَارَة بمكيدة في السنة الرابعة للهجرة، تسببت في قتل عشرة من الصحابة فيما عُرِف في السيرة النبوية بسرية الرجيع، وفي العام نفسه وقعت فاجعة بِئْرِ مَعُونَة، التي تُعد من أشد الفواجع التي مرت بالمسلمين، فقد استُشهِدَ فيها سبعون صحابيًّا من قراء القرآن الكريم، حيث قُتِلوا غدراً وخيانة.
وهذه الفاجعة التي وقعت في بئر معونة ينبغي الوقوف معها للاستفادة منها، وقد رواها الطبراني في "معجمه"، والطبري في "تاريخه"، وابن كثير في "البداية والنهاية"، وابن هشام في "السيرة النبوية" يقول الخبر: "قَدِمَ أبو براء عامر بن مالك بن جعفر -الملقب بملاعب الأسنة- على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام ودعاه إليه، فلم يسلم، وقال: يا محمد! لو بعثتَ رجالاً من أصحابك إلى أهل نجد، فدعوهم إلى أمرك، رجوت أن يستجيبوا لك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني أخشى عليهم أهل نجد) قال أبو براء: أنا لهم جار، فابعثهم فليدعوا الناس إلى أمرك. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو -أحد بنى ساعدة، الملقب: المعنق ليموت- فى سبعين من خيار المسلمين، منهم: الحارث بن الصمة، وحرام بن ملحان ـ أخو أم سليم، وهو خال أنس بن مالكـ، وعروة بن أسماء بن الصلت السلمي، ونافع بن بديل بن ورقاء الخزاعى، وعامر بن فهيرة مولى أبى بكر الصديق وغيرهم، فنهضوا فنزلوا بئر معونة، وهى بين أرض بنى عامر وحرة بنى سليم، ثم بعثوا منها حرام بن ملحان بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عدو الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عامر بن الطفيل، فلما أتاه لم ينظر فى كتابه، ثم عدا عليه فقتله، ثم استنهض إلى قتال الباقين بنى عامر، فأبوا أن يجيبوه؛ لأن أبا براء أجارهم، فاستغاث عليهم بنى سليم، فنهضت معه عصية ورعل وذكوان، وهم قبائل من بنى سليم، فأحاطوا بهم، فقاتلوا، فقُتِلوا كلهم رضوان الله عليهم، إلا كعب بن زيد أخا بنى دينار بن النجار، فإنه ترك فى القتلى وفيه رمق، فرُفِع وبه جراح من القتلى، فعاش حتى قتل يوم الخندق رضوان الله عليه".
وروي مسلم في "صحيحه" هذه الحادثة عن أنس رضي الله عنه قال: (جاء ناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ابعث معنا رجالاً يعلمونا القرآن والسنة، فبعث إليهم سبعين رجلاً من الأنصار، يقال لهم: القراء، فيهم خالي حرام، يقرؤون القرآن، ويتدارسون بالليل يتعلمون، وكانوا بالنهار يجيئون بالماء، فيضعونه في المسجد، ويحتطبون فيبيعونه ويشترون به الطعام لأهل الصفة وللفقراء، فبعثهم النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، فعرضوا لهم فقتلوهم قبل أن يبلغوا المكان، فقالوا: اللهم بلغ عنا نبينا، أنا قد لقيناك، فرضينا عنك، ورضيت عنا، قال: وأتى رجل حراماً، خال أنس، من خلفه فطعنه برمح حتى أنفذه، فقال حرام: فزت ورب الكعبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (إن إخوانكم قد قُتِلوا، وإنهم قالوا: اللهم بلغ عنا نبينا، أنا قد لقيناك فرضينا عنك، ورضيت عنا). وكان ضمن الصحابة الذين قُتِلوا اثنان لم يشهدا هذه المؤامرة الغادرة، أحدهما: عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه، فأقبلا يدافعان عن إخوانهما، فقُتِل صاحب عمرو، وأفلت هو وسار راجعاً إلى المدينة المنورة، وفي طريق عودته لقي رجلين من المشركين ظنهما من بني عامر فقتلهما، وهو يري أنه قد أصاب ثأر أصحابه، وإذا معهما عهد من النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرف به.
وصل عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه إلى المدينة المنورة حاملاً معه أنباء المصاب الفادح، مصرع سبعين من أفاضل المسلمين وقرائهم، تذكر نكبتهم الكبيرة بمصيبة يوم أُحد، إلا أن هؤلاء ذهبوا في قتالٍ واضح، وأولئك ذهبوا في خيانةٍ وغدر، فلما أخبر النبيَّ صلى الله عليه وسلم بما فعل، قال صلى الله عليه وسلم للناس: (إن أصحابكم أصيبوا، وإنّهم قد سألوا ربّهم فقالوا: ربّنا أخبر عنّا إخواننا بما رضينا عنك ورضيت عنّا) رواه البخاري، ثم قال لعمرو: ( لقد قتلتَ قتيلين لأدِيَنَّهما(لأدفعن ديتهما) رواه الطبراني. وقام النبي ـصلى الله عليه وسلم بجمع ديتهما، مع أنه كان بإمكانه أن يعتبر عمل عمرو بن أمية رضي الله عنه انتقاماً لما فُعِل بأصحابه، لكنه الوفاء النبوي للعهود، الذي لم يُعرف له مثيل في التاريخ.
وقد يقول قائل: كيف يوافق النبي صلى الله عليه وسلم على إيفاد سبعين من أصحابه مع أناس ليسوا بمسلمين، وفي جوار رجلٍ لم يدخل الإسلام، مع احتمال أن يكون هذا استدراجاً لهم ومكيدة للإيقاع بهم، وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من رجاحة العقل والحكمة ما هو معروف به؟!، والجواب على ذلك:
أولاً: إن حفظ الجوار كان من فضائل العرب والخلق المتأصل فيهم، فكانوا في الجاهلية يدافعون عن الجوار، ويَمنعون مَنْ حالَفهم أو استجار بهم، ممَّا يمنعون منه نساءهم وأبناءهم، فاحتمال الغدر مُستبعد، ولا سيما أن القراء كانوا في جوار رجل له منزلته في بني عامر.
ثانياً: إن إرسال النبي صلى الله عليه وسلم لهم لم يكن إلا حلقة من حلقات الدعوة إلى الإسلام والجهاد في سبيل الله، ثم أليس غاية ما يُحتمل أن يموتوا شهداء؟ فهذا ما كانوا يرجونه رضوان الله عليهم.
ثالثاً: أظهرت هذه المؤامرة عدم معرفة النبي صلى الله عليه وسلم للغيب إلا ما علمه الله له، إذ لو كان يعلم الغيب ما أرسل أصحابه ليُقتلوا.
لقد حزن النبي صلى الله عليه وسلم حزناً شديداً، وتأثر لمقتل أصحابه رضي الله عنهم في بئر معونة تأثراً كبيراً، حتى قال أنس رضي الله عنه: (فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجَدَ (حزن) على شيء ما وجد عليهم) رواه البخاري، فقد كان عددهم يساوي عدد شهداء أُحُد، إضافة إلى أنهم من القرَّاء العبَّاد، وقد قُتِلوا غدراً وخيانة، ومن ثم ظل النبي صلى الله عليه وسلم يدعو على من قتلهم شهراً كاملاً، كما روى البخاري ومسلم في "صحيحيهما" عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (أنَّ رِعْلًا وذَكْوانَ وعُصَيَّةَ وبَني لَحْيانَ، اسْتَمَدُّوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على عدو، فأمدهم بسبعين من الأنصار، كنا نسميهم القراء في زمانهم، كانوا يحتطبون بالنهار، ويصلون بالليل، حتى إذا كانوا ببئر معونة قتلوهم وغدروا بهم، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقنت شهراً يدعو في الصبح على أحياء من أحْياء العرب: على رعل وذكوان وعصية وبني لحيان.. قال أنس: فقرأنا فيهم قرآناً، ثم إن ذلك رُفِع (نُسِخ): بَلِّغوا عنَّا قَومَنا أنا لَقينَا رَبَّنا، فرَضيَ عَنَّا وأرْضانا).
فائدة
من هدي النبي صلى الله عليه وسلم وسنته القنوت والدعاء في النوازل والشدائد، فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: (قنتَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم شهراً متتابعاً في الظهر والعصر والمغرب والعشاء وصلاة الصبح، في دبر كل صلاة، إذا قال: سمع الله لمن حمده من الركعة الأخيرة، يدعو على أحياء من بني سليم، على رعل وذكوان وعصية، ويؤمِّن من خلفه، وكان أَرْسَلَ يدعوهم إلى الإسلامِ فقتلوهم) رواه أبو داود وحسنه الألباني.
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه دعا على أهل الأحزاب بالنار وبالزلزلة والهزيمة، فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: (شغلونا عن الصلاةِ الوُسطَى صلاةِ العصرِ، ملأ اللهُ بيوتَهم وقبورَهم ناراً) رواه مسلم، ودعا على أهل مُضَرَ بالجوع فقال: (اللهم اشدُدْ وطأتَك على مُضَرَ، اللهم اجعلْها عليهم سنينَ كسنِي يوسُف) رواه البخاري. وقد بوب البخاري في "صحيحه" على هذه الأحاديث بقوله: "باب الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة".
وكما كان من هديه صلى الله عليه وسلم وسنته الدعاء على المحاربين من المشركين، فإن من سنته أيضاً الدعاء للمسالمين منهم بالهداية، إذا كان يرجو إسلامهم، ويطمع في هدايتهم، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اللهم اهْدِ دوْساً) رواه البخاري، ودعا لأم أبي هريرة رضي الله عنه كما في الحديث الذي رواه مسلم، وقد بوب البخاري على ذلك بقوله: "باب الدعاء للمشركين بالهدى ليتألفهم". قال ابن حجر: "وقوله: "ليتألفهم" مِن تفقُّه المصنِّف، إشارة منه إلى الفرق بين المقامين، وأنه صلى الله عليه وسلم كان تارة يدعو عليهم، وتارة يدعو لهم، فالحالة الأولى حيث تشتد شوكتهم، ويكثرُ أذاهم، والحالة الثانيةُ حيث تُؤمَنُ غائلتهم، ويُرجى تألفهم، كما في قصة دوس". وقال ابن تيمية: "القنوت مسنون عند النوازل، وهذا القول هو الذي عليه فقهاء أهل الحديث، وهو المأثور عن الخلفاء الراشدين". وقال أيضاً: "وينبغي للقانت أن يدعو عند كل نازلة بالدعاء المناسب لتلك النازلة". وقال ابن القيم: "وكان من هديه صلى الله عليه وسلم القنوت في النوازل خاصة، وترْكَه عند عدمها، ولم يكن يخصه بالفجر، بل كان أكثر قنوته فيها".
لقد أظهرت حادثة بئر معونة وما حصل للمسلمين فيها حقيقة المشركين، وشدة عداوتهم للمؤمنين، وغدرهم بهم حينما تسنح فرصة للغدر، كما تُبْرِزُ حجمَ الابتلاء الذي ابتلي به هؤلاء الصحابة، فقد خرجوا يُعلمون الناس القرآن والإسلام، فقُتلوا خيانةً وغدراً، وليس المسلمون اليوم بأكرم على الله تعالى من رسوله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، الذين ابتلوا أشدَّ الابتلاء، فثبتوا على دينهم، وبذلوا نفوسهم وأرواحهم لله عز وجل، وكان أشدَّ شيء حرصوا عليه أن يبلغوا النبي صلى الله عليه وسلم ويبلغوا إخوانهم رضاهم عن الله تعالى بما أكرمهم الله به من الكرامة والشهادة، وبما أسبغ عليهم من الرِضى عنهم، حتى قالوا: (اللهم بلِّغ عنا نبينا، أنا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيتَ عنا) رواه مسلم.
- الكاتب:
إسلام ويب - التصنيف:
من بدر إلى الحديبية