في ظل مفاهيم العولمة والمؤسسات وأجهزة الإعلام العابرة للقارات، تواجه كثير من دول العالم تحدياً ثقافياً، وفكرياً واضحاً، يهدد البناء التقليدي والخصوصيات الداخلية لهذه الدول، وأغلب هذه الدول تنتمي إلى العالم الثالث.
ونود أن نشير إلى قضية مهمة، وهي أنَّ الخصوصيات في العالم العربي والإسلامي نستطيع تقسيمها إلى قسمين كبيرين:
1- خصوصيات لها علاقة بالهوية، وهي مرتبطة بالإسلام بشكل رئيس.
2- وخصوصيات لها علاقة بالعادات والتقاليد التي تطورت عبر الزمن في كل دولة وفي كل مجتمع من المجتمعات العربية والإسلامية بشكل منفصل.
غير أنَّ التحدي الأكثر خطورةً في هذا الشأن هو ما تواجهه دول العالَمَيْن العربي والإسلامي، حيث يشكل ذلك تهديداً لمركز هويتها المرتبطة بالإسلام باعتباره ديناً وأسلوب حياة؛ لأنَّ التحديات المرتبطة بالعادات والتقاليد مفتوحة لإعادة النظر والدراسة والتطور أيضاً بما لا يتعارض مع الهوية الأصلية للعالم العربي والإسلامي.
خمسة تحديات رئيسة:
في هذا الإطار طرح «د. مهاتير محمد»، رئيس وزراء ماليزيا الأسبق، في الخطاب الذي ألقاه في يونيو 2001م في اليابان خمسة تحديات رئيسة تواجه العالم الثالث، وهي كما يلي:
- تحدي الفكر.
2- تحدي الحقيقة.
3- تحدي العدالة والمشروعية.
4- تحدي المنفعة المتبادلة.
5- تحدي خلق عالم أكثر شفقة ورحمة.
ففي إطار تحدي الفكر يطرح «د. مهاتير مُحمَّد» أزمة أننا في ظل الهجمة الإعلامية الدولية، وكذلك في إطار العولمة أصبحت هذه المؤسسات الضخمة هي التي تفكر لنا وتضع لنا خارطة الطريق لمستقبل بلادنا، وهذه أزمة كبيرة في إطار اتخاذ القرار السليم المناسب لهوية بلادنا.
أما تحدي الحقيقة، فهو يطرحه في إطار أزمة السيل الهائل من الأكاذيب التي يروجها الإعلام العالمي حول أوضاع العالم الإسلامي، وأيضاً حول الإسلام نفسه، والتي تشتمل على قدر قليل جداً من الحقيقة في غلافٍ كبيرٍ من الأكاذيب والمعلومات غير الدقيقة.
أمَّا تحدي العدالة والمشروعية، فهو واضح في إطار حل الخلافات الداخلية في العالم العربي والإسلامي من خلال مرجعية تنطلق من الهوية الإسلامية ولا تسمح بتدخلات خارجية في هذا الإطار.
وفي إطار تحدي المنفعة المتبادلة، فهو يطرح أن الوضع الاقتصادي في إطار العولمة يجعل العالم منقسماً إلى قسمين كبيرين كاسبٌ وخاسرٌ، ولتأكيد هذه الفكرة فلدينا إحصاءات أنه في عام 1960م كان مجمل الدخل لـ20% من الشريحة الأغنى في العالم يساوي ثلاثين ضعفاً لمجمل الدخل لـ20% يمثلون الشريحة الأفقر في العالم، وفي عام 2000م أصبحت خمسة وثمانين ضعفاً بدلاً عن ثلاثين ضعفاً، وفي إحصائية للأمم المتحدة في عام 2000م أوضحت أن إجمالي الدخل لحوالي 200 شخص الأغنى في العالم يساوي مجمل دخل 2.5 مليار من الشريحة الأفقر.
والتحدي الأخير مرتبط بما سبق في إطار إيجاد مجتمع أكثر شفقة ورحمة ينطلق من القيم الحضارية الإسلامية بعيداً عن القيم المادية القاسية التي تطحن الفقراء والضعفاء في العالم. وهذا المقال يقدم خمس إستراتيجياتٍ لمواجهة هذه التحديات العالمية التي تتشابك فيها الجوانب الفكرية، والاقتصادية، والسياسية، والثقافية، ولذا، فإنَّ المواجهة لابدَّ أن تكون على نفس الدرجة من التشابك.
هذه الإستراتيجيات الخمس هي كما يلي:
1- خلق حوار مجتمعي واسع عابر للأقطار الإسلامية، ويتركز حول الفكر الوسطي الإسلامي، ومناقشة الأفكار غير السديدة بشكلٍ علميٍّ بعيداً عن التكفير والتفسيق، والبعد عن تسييس أو تديين الصراع الفكري مما يسبب احتقاناً اجتماعياً داخلياً نتجرع آثاره الآن في بلادٍ كثيرة.
2- التركيز على إظهار الحقائق فيما يتعلق بتراث الإسلام الفكري، والسياسي، والاجتماعي، وإبراز ذلك داخل العالم الإسلامي أولاً، ثمَّ طرحه خارج إطار العالم الإسلامي.
3- وضع إطار منبثق من المفاهيم الإسلامية الأصيلة حول مفاهيم العدالة والمشروعية لحل الخلافات الداخلية في العالم الإسلامي طبقاً للهوية الإسلامية الأصيلة، وذلك بهدف إغلاق باب التدخلات الخارجية التي تخلق الأزمات والمشكلات أكثر من الحلول.
4- تنشيط التجمعات الإقليمية الإسلامية لبناء مجتمع متوازن عبر العالم الإسلامي من الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية، مما يغلق الباب أمام التوجهات الفكرية المنحرفة التي تجد بيئتها في الهياكل الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية غير السليمة وغير المتوازنة.
5- طرح الإسلام بوصفه مشروعاً حضارياً للعالم لخلق بيئة أكثر رحمة وشفقة، استناداً إلى أنَّ بَعْثَ النَّبيِّ مُحمَّد "صلى الله عليه وسلم" كان «رحمة للعالمين».
فيما يتعلق بالاستراتيجية الأولى فتشمل المبادرات الآتية:
أ- تعريف دقيق لفكرة الوسطية ولفكر القطاع العريض من أهل السُّنة والجماعة بشكل منضبط يخلو من الإفراط والتفريط.
ب- تحقيق وتسليط الضوء على النتاج الثقافي الإسلامي الواسع الداعم للتصور الوسطي الحقيقي، والذي يظهره بشكل أصيل وعلمي.
جـ- تصنيف الأفكار التي تتحرك بين الإفراط والتفرط في إطار العالم الإسلامي، ودراسة نشأتها وتطورها وتشابكها المعرفي بالأفكار الدخيلة على الإسلام، ثم تفكيك هذه الأفكار بشكل علمي وموضوعي بعيداً عن الهجوم على الأشخاص، وتبادل اصطلاحات التكفير والتفسيق في إطار هذا النقاش.
د- وضع سياسة إعلامية واضحة ومنضبطة في إطار عرض المفاهيم الإسلامية السليمة، وتحريك حوار مجتمعي واسع عابر للأقطار الإسلامية والعربية لمناقشة هذه الأفكار الأصيلة والسليمة، وأيضاً كشف عوار الأفكار التي تتحرك بين الإفراط والتفريط. وفيما يتعلق بالإستراتيجية الثانية والتي تتعلق بالتراث الإسلامي، فلابد أن نعترف بأنَّه بالرغم من الاهتمام الواسع بالتراث الإسلامي، فإنَّ هذا الاهتمام مازال اهتماماً ناقصاً وغير متوازن، تحكمه توجهات فكرية متباينة بين دول العالم الإسلامي. وفي الحقيقة فإنَّ التراث الإسلامي بشموله الذي يتناول الجوانب الفكرية والاجتماعية والسياسية والترفيهية، لابد أن يعاد تحقيقه واكتشافه ونشره لإعادة التوازن في المجتمع المسلم بشكل أصيل. أمَّا الإستراتيجية الثالثة، فهي وضع إطار قيمي منبثق من المفاهيم الإسلامية الأصيلة حول العدالة والمشروعية، وفي هذا الإطار يجب علينا توضيح مفاهيم القيم وأوعيتها المختلفة، وهكذا، فحينما نؤمن كمسلمين بأنَّ الإسلام وحي وطريقة حياة، وأنَّ غايته هي عبادة الله عزَّ وجلَّ، وأنَّ أخلاقه الانضباط لتلك القيم، فحينها ستكون النتيجة الطبيعية أن نسلك سلوكاً يتناسب مع هذه المنطلقات.
وبترتيب هذه الحزمة من القيم والأخلاقيات، ووضع تعريفات منضبطة لمفاهيم العدالة والمشروعية، وإيجاد آلية تحكيم مناسبة لذلك، سنغلق الباب أمام التدخلات الخارجية التي تدفع بمفاهيم مختلفة حول العدالة والمشروعية والحرية وحقوق الإنسان، والتي تختلف اختلافاً جذرياً عن المفاهيم الإسلامية الأصيلة، وأصبحت أداةً للتدخل في الشؤون الداخلية في دول العالم الإسلامي والعربي.
أما الإستراتيجية الرابعة، فمن نعمة الله علينا أنَّ لدينا عدداً من المؤسسات والتجمعات الإقليمية خاصة بالعالم الإسلامي وبالعالم العربي مثل منظمة التعاون الإسلامي، الجامعة العربية، الإسيسكو، وغيرها من المؤسسات المهنية المرتبطة بها، ولكن تحتاج هذه المؤسسات إلى تطوير آلياتها ودفع عدد من الشباب الذي يحمل هم هذه الأمة وهويتها إلى العمل فيها، وتطوير البناء الإداري وآليات اتخاذ القرار فيها، فقد أصبح معلوماً من خلال العديد من الدراسات في العالم، سواءً في قطاعه الغربي أو الإسلامي، أن التوجهات الفكرية المنحرفة تجد بيئتها الخصبة في الهياكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية غير المتوازنة وغير السليمة، ودور المؤسسات والتجمعات الإقليمية أن تسعى لخلق هذا التوازن الإقليمي والقطري. أمَّا الإستراتيجية الخامسة والأخيرة، فستكون نتيجة للإستراتيجيات السابقة والتي تركز على الإصلاحات الداخلية، ولكنها تركن إلى طرح الإسلام كمشروع حضاري قيمي للعالم متمثلة في الوصف القرآني لبعثة النبي "صلى الله عليه وسلم" أنَّه رحمة للعالمين.. وفي هذا الإطار يلزم أن نبدأ بطرح القيم المشتركة التي يؤكد عليها الإسلام، وكل الديانات السابقة له، وأيضاً تتجاوب معها الفطرة الإنسانية السليمة، فهذه القيم ستصبح أرضية مهمة لطرح الإسلام كمشروع للخروج من الأزمات الداخلية والخارجية.