الصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة، فإن عُلِّم وعُوِّد الخير، سَعِد في الدنيا والآخرة، وشاركه في الأجر والثواب أبواه، وكل مُعَلِّم له ومُؤَدِّب، وإن عُوِّد الشر وعلمه، وأُهمل إهمال البهائم، شَقِيَ وهلك، والله - عز وجل - يقول: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ }(التحريم من الآية: 6) .
ولاشك أن الآباء محاسبون على أولادهم، فعن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( كلكم راع فمسئول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع وهو مسئول عنهم، والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسئولة عنهم، والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه، ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ) رواه البخاري .
ومن المسئولية الملقاة على الأبوين تجاه أولادهم الصغار: تعليمهم الخير، فعن الحاطبي قال: سمعت ابن عمر يقول لرجل: " أدب ابنك فإنك مسؤول عن ولدك ماذا أدبته وماذا علمته؟، وإنه لمسؤول عن برك وطواعيته لك ".
ويقول ابن القيم: " فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه وتركه سُدَى فقد أساء غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قِبَل الآباء وإهمالهم لهم وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه فأضاعوهم صغاراً، فلم ينتفعوا بأنفسهم ولم ينفعوا آباءهم كباراً، كما عاتب بعضهم ولده على العقوق فقال: يا أبت إنك عققتني صغيراً فعققتك كبيراً، وأضعتني وليدا فأضعتك شيخا ".
والناظر في حياة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يرى أنه كان مع الأطفال الصغار أباً حنونا، ومعلماً ومربياً، ويجد في سيرته معيناً لا ينضب من المواقف والوصايا التي تبين مدى اهتمامه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ بتعليم الصغار ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، وحثه الآباء والأمهات على ذلك .
ومن هذه المواقف والوصايا النبوية في تعليم الصغار :
احفظ الله يحفظك :
عن عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال: كنت خلف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوما، فقال: ( يا غلام، إني أُعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سأَلت فاسأَل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأُمة لو اجتمعت على أَن ينفعـوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف ) رواه الترمذي .
فهذا الحديث وهذه الوصية لعبد الله بن عباس ـ رضي الله عنه ـ وهو ما زال غلاماً أصل عظيم في المنهج النبوي في تعليم الصغار أمر عقيدتهم، وتربيتهم عليها، وتوجيههم على تعلق قلوبهم بالله، والاستعانة به، والتوكل عليه، وقطع الطمع والرجاء في ما عند الناس، وتفويض الأمر إليه ـ سبحانه ـ وحده .
وعن الربيع بنت معوذ ـ رضي الله عنها ـ قالت دخل عليَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - غداة بني علي فجلس على فراشي كمجلسك مني وجويريات يضربن بالدف يندبن من قتل من آبائهن يوم بدر، حتى قالت جارية: وفينا نبي يعلم ما في غد فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ( لا تقولي هكذا، وقولي ما كنت تقولين ( من الشِعر الذي لا مغالاة فيه ) ) رواه البخاري .
فعندما سمع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من البنت الصغيرة قولاً مخالفاً للتوحيد، بأن نَسَبت إليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه يعلم ما في المستقبل، علَّمها ما ينبغي لها قوله، ومنعها من إعادة كلامها .
قال ابن حجر: " وإنما أنكر عليها ما ذكر من الإطراء حين أطلق علم الغيب له، وهو صفة تختص بالله تعالى".
ومن ثم فمن الواجب على الآباء والأمهات أن يغرسوا في قلوب أولادهم معاني العقيدة الإسلامية الصحيحة بأسلوب سهل يناسب أعمارهم .
تعليمهم كيفية الصلاة وأمرهم بها :
عن عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ :( مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع ) رواه أحمد .
قال ابن قدامة: " قال القاضي: يجب على ولي الصبي أن يعلمه الطهارة والصلاة إذا بلغ سبع سنين، ويأمره بها، ويؤدبه عليها إذا بلغ عشر سنين" .
وقال الشيخ محمد السفاريني الحنبلي: "ويجب عليه أيضاً أن يعلمه ما يجب عليه علمه، أويقيم له مَنْ يعلمه ذلك" .
وقال ابن تيمية: " يجب على كلِّ مطاعٍ أن يأمر مَن يطيعه بالصلاة، حتى الصغار الذين لم يبلغوا، ومَن كان عنده صغيرٌ، يتيمٌ أو ولد، فلم يأمره بالصلاة فإنه يعاقَبُ الكبير إذا لم يأمرِ الصغيرَ، ويُعَزَّرُ الكبير على ذلك تعزيرًا بليغًا، لأنه عصى الله ورسوله " .
تعليمهم آداب الطعام :
كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يترك فرصة أو موقفا يحتاج الصغير فيه إلى تعليم أو تأديب إلا أرشده ووجهه برفق وحب، فعن عمر بن أبي سلمة ـ رضي الله عنه ـ قال: ( كنت غلاماً في حجر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: يا غلام، سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك، فما زالت طعمتي (طريقة أكلي)بعد ) رواه البخاري .
فرسول الله صلى الله عليه وسلم علَّم عمر بن أبي سلمة ـ رضي الله عنه ـ آداب الأكل بالرغم من صغر سنه، ومما يدل على ذلك مخاطبته ـ صلى الله عليه وسلم ـ له بقوله: ( يا غلام )، والغلام كما قال ابن حجر: " هو الصبي من حين يولد إلى أن يبلغ الحلم " .
ومع تعليم الأطفال آداب الطعام والشراب المأخوذة من هدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، على الوالدين الحرص على تناول الطعام مع أولادهم، فالاجتماع على الطعام من السنة النبوية، فعن أبي رمثة وحشي بن حرب ـ رضي الله عنه ـ أن أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلّم ـ قالوا: يا رسول الله إنا نأكل ولا نشبع، قال: ( لعلكم تتفرقون، قالوا: نعم، قال: اجتمعوا على طعامكم، واذكروا اسم الله تبارك وتعالى يبارك لكم فيه ) رواه الطبراني وحسنه الألباني .
تعليمهم إلقاء السلام عند دخول البيت :
عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال، قال لي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( يا بُنَيَّ: إذا دخلتَ على أهلك فسلم يكون بركة عليك وعلى أهل بيتك ) رواه الترمذي .
قال الشيخ ابن عثيمين: " فإذا دخلتَ البيت فسلم على مَنْ فيه، سواء أهلك أو زملاءك أو ما أشبه ذلك، فهذا من السنة " .
تعليم الصغار الأمور الدنيوية :
مع حرص النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على تعليم الصغار أمور دينهم، كان حريصاً كذلك على تعليمهم بعض مهارات الحياة التي تفيدهم في دنياهم ـ على حسب إمكانياتهم وما يناسب الوقت ـ، فعن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ: ( أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مرَّ بغلام وهو يسلخ شاة، فقال له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: تنحَّ حتَّى أريَكَ ، فأدخل يده بين الجلد واللحم، فدحس بها حتى توارت إلى الإبط، ثم مضى، فصلى للناس، ولم يتوضأ ) رواه أبو داود .
التعليم برفق :
الشدة والغلظة في التعليم والتربية مسلك خاطئ يؤدي إلى تنفير الأولاد، أما الرفق وهو لين الجانب بالقول والفعل، والتلطف في اختيار الأسلوب وانتقاء الكلمات، فهو الأسلوب الأمثل في تربية وتعليم الصغار وهو هدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فالطفل الصغير ـ خاصة ـ يهفو ويستجيب دائماً لمن يجد في قلبه الحنان والعاطفة، وقد بلغ تعظيم أمر الرفق من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن قال: ( إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه ) رواه مسلم، وقال: ( إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه (كمَّله وجمَّله)، ولا ينزع من شيء إلا شانه (عابه وأنقصه) ) رواه مسلم، وقال: ( من يُحْرَم الرفق يحرم الخير كله )رواه مسلم .
ومن الأمثلة في ذلك أنه حينما جمعت لديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ الزكاة فأكل منها الحسن ـ رضي الله عنه ـ، وجَّهه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بلطف ورفق، بأنه لا ينبغي له الأكل من الزكاة، فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: أخذ الحسن بن علي ـ رضي الله عنه ـ تمرة من تمر الصدقة، فجعلها في فيه، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( كخ كخ ) ليطرحها ثم قال: ( أما شعرتَ أنَّا لا نأكل الصدقة ) رواه البخاري، وفي رواية مسلم: ( إنا لا تحِّل لنا الصدقة )
قال النووي تعليقا على قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( إنا لا تحل لنا الصدقة ): " ظاهره تحريم صدقة الفرض والنفل .. وفي الحديث أن الصبيان يُحَذّرون مما يحذر منه الكبار، وهذا واجب على الولي ".
وقال ابن حجر: كلمة ( كخٍ كخٍ ) كلمة زجر للصبي عما يريد فِعْله " .
ومن ثم ينبغي إبعاد أطفالنا عن المحرمات، ومنعهم منها برفق وحكمة، فرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمر الحسن ـ رضي الله عنه ـ بطرح التمرة ورميها مِنْ فمه مع أنه طفل لم يبلغ بعد ولا تلزمه الفرائض، ولم يَجْرِ عليه القلم .
ولما رأى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الصبي عمر بن أبي سلمة لا يعرف آداب الطعام علمه إياها برفق ولطف، فتحلى عمر بعد ذلك بالآداب التي علمها له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال: " فما زالت طعمتي (طريقة أكلي) بعد " .
لما كانت مرحلة الطفولة من المراحل المهمة والأساسية في بناء شخصيَّة الإنسان، وفقًا لما يُلاقيه من تعليم وتربية، فلم يترك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ موقفاً مناسباً إلا وقدم فيه النصح للصغير، وعلمه وأرشده إلى السلوك الصحيح، وأكد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن لهؤلاء الأطفال الصغار حقوقاً على آبائهم وأمهاتهم، ومن هذه الحقوق تعليمهم ما ينفعهم من أمور دينهم ودنياهم، وقد أخبرنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن أولادنا أمانة سنحاسب عليها: ( كلكم راع فمسئول عن رعيته ) .
فعلى الآباء والأمهات الحرص على تعليم أولادهم ما ينفعهم في أمور دينهم ودنياهم، على أن يكون ذلك التعليم برفق وحكمة ورحمة، حتى يتقبلوا ما نربيهم عليه من قِيَمٍ وآداب مأخوذة من هدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فيكون له الأثر العظيم في سعادتهم في الدنيا والآخرة .