إن الأحداث الأخيرة المتسارعة التي شهدها العالم، وخاصة منها المنطقة العربية ساهمت في ضرورة إعادة التفكير في مجال الإعلام والاتصال وإعادة النظر في مهامه ووظائفه التقليدية التي أُنشئ من أجلها في علاقته بالمجتمع ودوره الجديد على مستوى العلاقات الدولية بعد أن اختلطت الأمور بعض الشيء، مع تطور التكنولوجيا الحديثة للمعلومات والاتصالات بصورة رهيبة خلال السنوات القليلة الماضية، مما جعلت الشعوب غير المواكبة لهذه التطورات وغير المنفتحة على تعديل التشريعات، "أكلة" سهلة أمام ماكينات وسائل الإعلام الدولية التي تعمل بصورة ذكية وبإمكانيات ضخمة، بحيث يصعب على بعض الدول التفريق بسهولة بين الإعلام الموجه من جهة، وحق شعوبنا في الحصول على الأخبار والمعلومات وحق ممارسة حرية الرأي والتعبير من جهة أخرى.
وأكدت هذه التسارعات والتطورات على أنه لا يمكن في الوقت الراهن لأي بلد مهما كان حجمه العسكري أو السياسي أو الاقتصادي أو الثقافي، أن يغفل الدور المحوري الذي تلعبه وسائل الإعلام والاتصال داخل المجتمع أو في تفاعله مع المجتمعات والدول الأخرى.
إن من حقّ أي دولة حماية نفسها من خطر سلاح تدفق المعلومات المغلوطة والافتراءات الباطلة التي لها انعكاسات خطيرة على مستقبل الدولة؛ لأن من حقّ الدولة أن تحمي نفسها من شبكات الإعلام والاتصال الداخلية والخارجية التي لا تحترم القوانين أو تمثّل خطراً على أمنها الوطني إن الأمن القومي لم يعُد قاصراً على البُعد العسكري التقليدي، ولكنه اتسع ليضُم عدة أبعاد أخُرى، مثل التي تتعامل مع تهديدات مختلفة عن الحرب بمفهومها المُتعارف عليه. ولكنها لا تقل أهمية عن العدوان العسكري المباشر؛ بل ربما تفوقه أهمية، باعتبارها تهديدات غير مباشرة يُمكنها أن تؤدي إلى الخلل في بنية المجتمع والدولة معاً: مثل الاستخدام السيئ أو الغير مسئول لوسائل الإعلام، وأيضاً الاختراق الإعلامي، والحرب الإلكترونية..
ومن ثم يجب القول بأن مفهوم الأمن القومي، يُعد مفهوماً جماعياً؛ أي أن جميع جهات الدولة المعنية، يُحتَم عليها الحفاظ على الأمن القومي في ظل انفتاح الحدود والفضاءات وعدم سيطرة الدولة على سلطة حركة الفكر والثقافة.
لقد أدرك العالم الخارجي القوة الكامنة في الإعلام الذي أصبح من أهم الوسائل التي ارتكزت عليها المخططات الاستراتيجية الأجنبية، والتبرير لظاهرة العولمة، أو الأمركة، والنظام العالمي الجديد بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، بالإضافة إلى مُحاولات نشر مفهوم المُواطنة الإنسانية، من خلال تلك الوسائل الإعلامية التي أثبتت قُدرتها على إذابة الحواجز بين الثقافات، والأديان، والحضارات، وما إلى ذلك...
وقد رأينا أن معظم ما تم تنفيذه من مُخططات وصلت أحياناً إلى درجة احتلال دولة ما، كانت قد استندت على قاعدة عريضة من التأييد الدولي، تتمثل في الرأي العام العالمي، والذي تم تشكيله عبر الاستراتيجيات الإعلامية التي اُتقن صُنعها تجاه قضايا وأهداف محددة، لم يكن من الممكن تحقيقها دون ذلك التأييد الدولي مثلما حدث في ليبيا، والعراق وأفغانستان من قبلها، والمُحاولات المُستميتة حتى وقتنا هذا في سوريا.
الدعاية والإعلام:
تقترب الدعاية من حيث مضمونها من ناحية الوسائل التي تستخدمها في نشاطاتها المختلفة بمنظور العمليات الاتصالية بالجماهير بشكل عام وبتطور الوسائل المستخدمة في التحكم بالرأي العام وأنماط السلوك المختلفة للأفراد والجماعات، وتختلف لغة الدعاية وأسلوبها وأنواعها حسب الهدف الذي تسعى إليه وحسب توجه القائم بالعملية الاتصالية الدعائية والغايات التي يستهدفها من الدعاية.
والدعاية عبارة عن عمليات اتصالية ترمي إلى التأثير على الأفراد والجماعات والسيطرة على سلوكهم الغريزي باتجاه يخدم أهداف مخططي العمل الدعائي.
ويلاحظ هنا أن أغلبية الأنظمة لا تستخدم مصطلح الدعاية وإنما "الإعلام" ـ رغم إن ممارساتها دعائية تضليلية بعيدة عمّا يعنيه مصطلح الإعلام؛ لأن تلك الأنظمة تعلم أن الدعاية صورة سيئة الصيت لإدارة المواقف الجماعية باستخدام رموز معينة.
ويلاحظ على الدعاية أيضا أنها تناشد العواطف لا العقل، إضافة إلى اعتمادها على المبالغة واستخدام بعض الوسائل اللاعقلانية وغرس الكراهية في نفوس أبناء الشعب اتجاه الشعوب الأخرى بما يخدم مصالحها.
عندما نتحدث عن تهديد الأمن القومي بالطبع نتحدث عن ذلك اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا.. هكذا يبدو، ولكن في الوطن العربي سيظل موضع النقاش هو الجانب السياسي بسبب تغير خريطة العالم العربي بعد التقلبات السياسية التي شهدتها المنطقة والتي ساهمت فيها شبكات التواصل الاجتماعي أو الإعلام الجديد بشكل كبير كما ذكرنا سابقا، ولكن قبل وصف شبكات التواصل الاجتماعي بأنها تمثل مهدد للأمن القومي لابد أن نتحدث أولا عن أسباب التحول نحو الإعلام البديل.
أسباب التحول إلى الإعلام البديل:
هناك الكثير من الأسباب ولكن أحد أهم هذه الأسباب هي الحرية المطلقة التي تكفلها الإنترنت اليوم رغم المحاولات اليائسة لتقييدها حيث لم يجد المواطن بديلا إلا الإنترنت والشبكات الاجتماعية لنقل قضاياه والبحث عن المعلومات التي توفرها شبكات التواصل الاجتماعي من قلب الحدث بالصوت والصورة والتي عجز الإعلام التقليدي عن نشرها ـ إما بسبب الرقابة التي تحظر أحيانا صدور بعض وسائل الإعلام التقليدي، أو بسبب الأفضلية التي توفرها الإنترنت لهذا النوع من الإعلام. كما وأن عدم مصداقية الإعلام التقليدي وعدم حيادته أحيانا في نقل المعلومة هو أحد الأسباب أيضا التي أدت إلى هذا التوجه نحو استخدام شبكات التواصل الاجتماعي.
كما ذكرنا فإن شبكات التواصل الاجتماعي قد ساهمت في صناعة ثورات الربيع العربي.. ويكمن التهديد الأساسي في هذه الشبكات في أنه من الصعب جدا السيطرة على ما ينشر فيها مهما كانت الأسباب أو الوسائل المستخدمة، وأيضا في تكوين شبكات التواصل الاجتماعي للرأي العام. وقد تصبح الحكومات مستقبلا دون صحافة تدعمها إذا اعتمدت على وسائل الإعلام التقليدي. ولا يكمن الحل في وضع قوانين وتشريعات جديدة تقيد هذا التوجه (كما كان مقترحا) بل في مواكبة الحكومات لهذا النوع من الإعلام.
والغريب أن دول الخليج والتي تناقش هذه القضية هي من بادرت عربيا إلى هذا التوجه ليس على مستوى الصحافة بل على مستوى مسئولي الدولة والمؤسسات الرسمية في استخدام شبكات التواصل الاجتماعي وهذا ما صنع نوعا من التوازن بين مستخدمي هذه الشبكات والمؤسسات الرسمية على هذه الشبكات.
كان الأحرى أن تناقش هذه المواضيع لدى دول عربية لم تبادر مؤسساتها الرسمية بعد إلى استخدام شبكات التواصل الاجتماعي، حتى إنها لا تملك صحف إلكترونية توازي الصحافة التقليدية التي تنتجها، وهنا استطيع القول إن المسؤولية الإعلامية لا تشكل كما أنها لا تعني عند ممارستها أو مراعاتها ، تحديدا أو تقييدا على حرية الإعلام، والإعلامي عندما يقوم بممارسة الإعلام المسئول، فإن ذلك لا يتعارض مع الشفافية والوضوح أو حتى مع الأدبيات الإعلامية في بلدان العالمي، أي إن الوصول إلى المعلومة ونشرها يجب إن يكون محكوما بمهنية واحترافية عالية تدرك أن نشر الحقيقة يجب ألا يسهم في تدمير مصالح الوطن وبالتالي إضعافه.
وفي ظل هذه المسائل وغيرها نتساءل عن مدى وعي القائمين على الإعلام بمفهوم الأمن الوطني، وأين تنتهي حرياتهم في إطار الحرية المسئولة، التي تضفي على عملها مهنية عالية باعتبارهم السلطة الرابعة، وحراس البوابة الإعلامية للوطن والمواطنين، الذين نأمل منهم أن يدركوا تماما أن الكلمة أبلغ من الطلقة إن أحسنت إدارتها. وأن سلاحهم هو الكلمات التي قد تخرج الأفعى من جحرها إن أحسنت صياغتها بدبلوماسية تراعي مصلحة الوطن دون مجاملة أو مواربة أو نفاق، كما أنها قد تشعل الحروب كما قال الشاعر: "وإن الحرب مبدؤها الكلام"، بل والكلمة قد توقظ الفتن، وتذكي في النفوس الحقد والكراهية، وتغرس بين الشعوب والأمم بذور الشك، وتهدم بناء سنين طويلة جراء خبر أو تصريح تحمله وسائل الإعلام..
والأمل كل الأمل أن نصل إلى هذا المستوى المهني .