قال عنه العقاد رحمه الله تعالى: "إنه الكاتب الذي يكتب ليحقد، ويحقد ليكتب، ويدين بالمذاهب ليربح منها، ولا يتكلف لها الكلفة، في العمل أو في المال".
كان الرجل جملة من المتناقضات والقفزات والإشكالات، فهو "خواجة" في إهاب مصري، شرقي شرقاوي يعبد الغرب بعجره وبجره، نصراني يدعو إلى الشيوعية "السوشيالية"، شيوعي برجوازي يعشق الباليه، عربي اللسان وينادي بضرب العربية، من مصر الإسلام ويدعو لتقويض الإسلام!
إنه الكاتب صاحب الجعجعات المدوية، الذي أراد أن يفجر المجتمع المصري والعربي من الداخل، بضرب دينه، وضرب تركيبته الاجتماعية، وضرب وضعه الاقتصادي، وضرب كل شيء فيه. إنه الكاتب النصراني سلامة موسى.
لقد أراد هذا الرجل أن يحدث انفجارا كاملا لصالح الحضارة الغربية التي آمن بجنون أنها أم الحضارات، ووارثة الدنيا بمن فيها، وأيقن أنه من رابع المستحيلات أن تزاحمها حضارة، أو تنافسها عقيدة، وجزم بأن الدين قذارة (أو على حد تعبيره وساخة)، والعروبة سخافة، والحضارة العربية الإسلامية ارتكاس، واللغة القرآنية العربية غثاثة وسذاجة، أما الأوروبي فهو الذي حاز الكمال من أطرافه.
بل إنه في المقدمة التي كتبها "لسوبرمان نيتشه" طالب بمطلب عجيب يحلم به اليهود وأعداء الإسلام قاطبة، وهو أن تزول مصر من الوجود، وأهاب بأهل الغرب أن يبيدوها وأهلها، إذا لم تتحقق الصورة التي أراد أن يصلها هو على جسد مصر الإسلامية - ولو كره المسلمون - فيقول: (إذا لم يكن الزمن مهيِّئا لنا فيُ كمه رسالة أصلا: فأضرع للأمم النشيطة الحية أن تعمل على إبادة الشعب المصري، لأنه غير جدير بالحياة)!
رأيه في المرأة
لا أريد أن أستطرد في حديثي عن سلامة موسى - وإن كان هذا مهما في وقت لاحق إذا أراد الله عز وجل - ولكن أقف قليلا أمام رأيه في المرأة، ونظراته "الإصلاحية" التي سالت بها "قريحته" وسال بها قلمه، منذ مطالع القرن الماضي، في مجتمع كان محكوما في سلوكه الاجتماعي بخليط من أحكام الدين، ومن الخرافات والتقاليد المغلوطة، فاستغل هو وأشباهه غلط التقاليد؛ ليضربوا الدين والقيم الثوابت، ثم لينزعوا عن المرأة حياءها وحجابها وثيابها، وأنوثتها وأمومتها، ليحولوها إلى مسخ من تلك المسوخ الأوروبية "الجميلة" التي لم تعد تعرف معنى الأسرة والزوجية والعفة، ثم إلى وليمة مستباحة، يتداعى إليها كل مسعور وتحولت إلى ماكينة للمتعة الحرام.
فماذا قال سلامة موسى عن المرأة؟
لم يجد الرجل في قرار المرأة، في بيتها، واهتمامها بمن فيه، شيًئا ذا جدوى، بل زعمه سجنا مقيتا وتعطيًلا للطاقات يقول: (ماذا في البيت يستحق أن ترصد له الزوجة نفسها ووقتها وفراغها؟! يجب على المرأة المتعلمة أن تعمل خارج البيت.. وتؤدي خدمة اجتماعية لوطنها).
إن الزوجية - في رأيه - ليست شيًئا مذكورا، وإن الزوج لا حقوق له، ولا ينبغي أن يكلف المرأة المتعلمة شيًئا، وإن الأمومة لا ضريبة لها ولا ثمن، وإن الاستقرار الاجتماعي، وثبات العلاقات العائلية، والقيام على المنزل، ليس خدمة للوطن بل هو تعطيل وتبديد للطاقات، ولا يستحق ذلك كله من امرأة "متعلمة" أن ترصد له من نفسها ووقتها وفراغها… فالاهتمام بالبيت عنده من شأن الجاهلة، ومن سيما الزوجة المنغلقة، وهي النظرية الحمقاء التي تعتبر المرأة العاملة في البغاء منتجة وتستحق الاحترام الاجتماعي، أما سيدة البيت فلا تستحق هذا؟!
المرأة والرقص
ومن أشد ما كان يثير قلق سلامة موسى أننا أمة متخلفة لا ترقص، ويالفظاعة تقصيرنا وعجزنا.. إن الرقص عنده مقياس التقدم، والترنح السكران علامة العافية والحيوية، ومعيار الإبداع والتقدم.. يقول: (يمتاز الأوروبيون علينا بأنهم يتعلمون الرقص، ويجدون فيه تدريبا على الحب وتربية الغرائز، إن الرقص الأوروبي فن عظيم رائع إن الراقصة الأوروبية تنظر إلى أعلى وهي ترقص.. إنها تسمو.. إنني حين أرى الرقص إنما أذكر الأوروبية التي تنظر إلى السماء - وتنشد الأشعار بحركاتها وإيماءاتها. إن المرأة الأوروبية إذ ترقص تشب وترتفع إلى أعلى، ويداها تناجيان السماء، ولا تكاد تحس أن لها كفلين، إذ هي إنسان قبل أن تكون أنثى).
ولست أدري: أيتغابى أم يستحمق الناس بهذا الهراء؟!
قضية الاختلاط
ومن أسوأ ما كان يقلق ذلك الإنسان قضية الفصل بين الرجل والمرأة في مصر؛ إذ كانت المصريات آنئذٍ في جملتهن منضبطات بعيدات عن الرجال، وكان هو قد تأثر تأثرا شديدا بالحياة في انجلترا وفرنسا، اللتين عاش فيهما في مقتبل شبابه، وعاد من هنالك منبهرا بكل ما رأى، كافرا بكل ما كان في بيئته "الشرقاوية" المحافظة، لذا جاءت مناداته بالاختلاط عنيفة صارخة:
(الاختلاط بين الجنسين في المجتمع والدراسة والجامعة ضرورة، وهو تدريب حسن للحب؟! بل هو تدريب ضروري، لأن الشاب يحتاج إلى تسديد الغريزة حتى لا تنحرف، ولذلك يجب أن يبقى على الدوام على رفقة مع الفتيات؟! أما إذا انقطعت الرفقة فإن الغريزة الجنسية تختل وتنحرف إلى شذوذات خطرة، وهذا هو ما وقع بالفعل عند الأمم العربية، وفي الهند، وكثير من الأمم "التي مارست الحجاب".. ونحن الرجال نحتاج على الدوام إلى الاختلاط بالجنس الآخر، منذ أن نولد إلى أن نموت، لأن أقل ما يقال في تبرير هذا الاختلاط أنه هو الوضع الطبيعي الذي يجب ألا يناقضه وضع اجتماعي!! يجب أن نعد الاختلاط جزءًا من تربيتنا العامة، وأن ندعو إلى التعليم المختلط في المدارس الابتدائية، وإلى تشجيع الضيافة "الراقية" بل أيضا غشيان المطاعم والمقاهي العامة مختلطين. وعندما ينتقل مجتمعنا إلى حالة الاختلاط سوف نحس أننا أمة متمدينة).
هل هذا العفن والإفك جدير بالمناقشة؟! وهل يخفى على ذي عينين ما يفعله الاختلاط في الأمم التي لم تمارس الحجاب؟
هل نقدم قوائم بأبناء السفاح، وحالات الإجهاض، والنساء المخادنات، والبغاء الاجتماعي الطوعي، وبالمراهقات الحوامل، وبالشاذات والشواذ؟!
إن الأرقام موجودة، وإن الإحصاءات مهيأة.. وأنا أتحدى أن يثبت دعي أن مظاهرة من مليون شاذ قامت في بلد من بلاد المسلمين كما حصل في سيدة النظام العالمي الجديد (أمريكا)، وأن ثورتين قامتا منذ عام 1994 م، على أيدي الشواذ من أجل استحلال الشذوذ؛ حتى بات الانحراف عن الفطرة قانونيا ومقبولا، بعد أن كان يعد من باب الخلل العقلي والاضطراب العصبي.
وأتحدى أن يثبت أحد أن أي بلد من البلاد التي "مارست الحجاب" فيها نقابات تتلو نقابات، وجماعات تتلو جماعات، تدافع عن هؤلاء الحثالة الذي سموا أنفسهم أمة الشواذ.
وأتحدى أن يكون في أي بلد من بلاد المسلمين التي مارست الحجاب نسبة صرعى نقص المناعة فيها تقترب مما في بلاد النور التي لم تمارس الحجاب، وأن أعلى رأس فيها يتبنى قضايا الشذوذ كما فعل الممثل العجوز الداهية، ريجان، الذي واسى تليفونيا الممثل روك هديسون - صريع الشذوذ - وكما لعب بيل كلينتون بورقة الشواذ حتى وصل إلى المكتب البيضاوي بالبيت الأبيض.
ترى أكان هذا بسبب الاختلاط أم بسبب الحجاب؟ وهل الاختلاط، والاختلاء، والتماس وتصاعد الأنفاس مما يطفئ الغريزة؟! هل هذا من المعقول، أم هو من باب الاستغفال للعقول؟!
هذه واحدة، وأما الثانية فإن الاختلاط قد انتقل بالفعل إلى معظم مجتمعات المسلمين التي صارت مبتلاة بالنوادي الليلية، والشواطىء المفتوحة، وقرى العراة، والسياحة الفاسدة، والمدارس والجامعات المختلطة، والميكروفونات التي تنعق ليل نهار بمزايا الاختلاط وفضائله وبلايا الحجاب وجرائره. فهل أخرجنا ذلك من دائرة التخلف والانتماء للعالم الثالث بجلالة قدره ورفيع سلطانه؟
إن هؤلاء هم نافخو الكير، الذين لا تنبعث منهم إلا الروائح النتنة أو الشرر الحارق للشباب والأخلاق، والدين والدنيا، والحضارة والآداب.
لا تتزوجوا المتدينات
غرائب سلامة موسى نصحه للشاب المصري - في زمانه - ألا يتزوج من مصرية!! لماذا؟ لأن المصريات أكثر تدينا!! تخيلوا وحوقلوا واسترجعوا. يقول: "وأنصح ألا يتزوج الشاب المصري من مصرية، بل من سورية أو تركية، لأن "التمدن الإسلامي" لم يؤثر فيهن تأثيره في الفتاة المصرية!
ولاحظ نبرة السخرية التي تطل من عبارة هذا الحاقد على الإسلام والمسلمين، وتهكمه المر على "التمدن الإسلامي".
إنه يرى عدم الزواج بالمرأة المتدينة، وبهذا المقياس ربما تفوقت المرأة الشيوعية في الشرق أو الدهرية في الغرب على كل ذوات الدين وربات الحياء، اللواتي هن ـ بمقاييس هذا الرجل - متخلفات جامدات رجعيات، غير جديرات بالحياة.
حذو النعل بالنعل
لقد استقى سلامة موسى - وسائر الذين تحدثوا عن حقوق المرأة في بلادنا من معين آسن واحد، هو نظريات إنجلز وماركس، وكتابات شو وإبسن ونيتشه وفرويد، فهو ينقل من هؤلاء وغيرهم "حذوك النعل بالنعل" فهو يربط بقوة في كتابه - المرأة ليست لعبة الرجل وغيره من الكتب - بين الطلاق والبغاء والزنا.
ويتحدث من خلال المنظور الشيوعي تارة، والأوروبي الدهري تارة، والفرق يسير على كل حال - عن الحرية الاقتصادية للمرأة، وعن أخلاق العفة والحجاب والبكارة والعورة، وأنها كلها من أخلاق الإقطاع بالمفهوم الأوروبي، وكذا نقله لكلمه "الحريم" بظلالها الأوروبية لا بمعناها الإسلامي الكريم.
وهو أيضا الذي اعتبر الكتب الدينية سببا من أسباب انتشار الطلاق، وعد الطلاق شكلا من أشكال عبودية المرأة للرجل.
وأكرر أن ما مضى من كلام موسى ليس مجرد نظريات، وليس مجرد آراء، ولكنه عصبية مستترة تحت قناع الاجتهاد، وصليبية تتربص حينا من الدهر بالتمرد على الدين، وحينا بالرغبة في التجديد، وهو هدم يرفع شعار البناء، وترة تبحث عن التشفي والانتقام.
{والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون}.