الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

النبي صلى الله عليه وسلم خليل الله

النبي صلى الله عليه وسلم خليل الله

النبي صلى الله عليه وسلم خليل الله

الخُلَّة لله - سبحانه - هي أعظم مقامات العبد، وهي أرفع من مقام المحبة، حيث ثبتت محبة الله لعباده المؤمنين ومحبتهم له، ولكن الخلة لم تثبت إلا لاثنين، محمد وإبراهيم ـ عليهما الصلاة والسلام ـ، وقد ثبتت خلة إبراهيم ـ عليه السلام ـ بقول الله تعالى: { وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا }(النساء: 125) .
وعن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( ألا إني أبرأ إلى كل خل من خله، ولو كنت متخذاً خليلاً، لاتخذت أبا بكر خليلا، إن صاحبكم خليل الله ) رواه مسلم .
وعن جندب بن عبد الله ـ ر ضي الله عنه ـ قال: ( سمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم- قبل أن يموتَ بخمس وهو يقول: إني أَبْرَأُ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، وإن الله قد اتخذني خليلاً، كما اتَّخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنتُ متخذاً من أُمَّتي خليلاً لاتَّخذتُ أبا بكر خليلا ) رواه مسلم .
قال ابن حجر: " قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( لو كنت متخذا خليلا ) قال الداودي: لا ينافي هذا قول أبي هريرة وأبي ذر وغيرهما: " أخبرني خليلي ـ صلى الله عليه وسلم ـ "، لأن ذلك جائز لهم، ولا يجوز للواحد منهم أن يقول: أنا خليل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ولهذا يقال: إبراهيم خليل الله، ولا يقال الله خليل إبراهيم، قلت: ولا يخفى ما فيه " .
وقال ابن تيمية: " وقول بعض الناس إن محمدا حبيب الله وإبراهيم خليل الله، وظنه أن المحبة فوق الخلة، قول ضعيف، فإن محمدا أيضا خليل الله، كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة المستفيضة " .
وقال ابن القيم: " " وأما ما يظنه بعض الغالطين أن المحبة أكمل من الخلة وأن إبراهيم خليل الله ومحمد حبيب الله فمن جهله، فإن المحبة عامة والخلة خاصة، والخلة نهاية المحبة وقد أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن الله اتخذه خليلًا، ونفى أن يكون له خليل غير ربه، مع إخباره بمحبته لعائشة ولأبيها ولعمر بن الخطاب وغيرهم " ، وقال: " وقد ظن بعض من لا علم عنده أن الحبيب أفضل من الخليل، وقال: محمد حبيب الله وإبراهيم خليل الله!، وهذا باطل من وجوه كثيرة: منها: أن الخلة خاصة والمحبة عامة ، فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ، وقال في عباده المؤمنين: { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ }(المائدة الآية:54 )، ومنها: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نفى أن يكون له من أهل الأرض خليل، وأخبر أن أحب النساء إليه عائشة، ومن الرجال أبوها، ومنها: أنه قال: ( إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا )،ومنها: أنه قال: ( لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا، لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن أخوة الإسلام ومودته ) " .

وقال الشيخ ابن عثيمين: " الخليل هو الذي بلغ غاية المحبة، قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( إن الله اتخذني خَليلاً كما اتخذ إِبْرَاهِيْمَ خليلا، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذَاً مِنْ أُمَّتِيْ خليلا لاَتَّخّذْتُ أبا بكر خليلا ) رواه مسلم .
وهناك كلمة شائعة عند الناس: يقولون: إبراهيم خليل الله، ومحمد حبيب الله، وموسى كليم الله، ولاشك أن محمداً ـ صلى الله عليه وسلم ـ حبيب الله ولكن هناك وصف أعلى من ذلك وهو خليل الله، فالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ خليل الله، والذين يقولون محمد حبيب الله قد هضموا حق الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ، لأن المحبة أقل من الخلة، ولذلك نقول لا نعلم من البشر خليلاً لله إلا اثنان: إبراهيم ومحمد ـ عليهما الصلاة والسلام ـ، لكن المحبة كثير كما قال الله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }(البقرة: الآية195) و: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً }(الصف: الآية4) وغير ذلك من الآيات " .
وقال الشيخ الألباني في شرح الطحاوية معلقاً على كلام الطحاوي " وحبيب رب العالمين ": " بل هو خليل رب العالمين، فإن الخلة أعلى مرتبة من المحبة وأكمل، ولذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً )، ولذلك لم يثبت في حديث أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ حبيب الله " .

فائدة :

وورد حديث ظاهره يخالف ما تقدم من أن الخلة أعلى من المحبة، رواه الترمذي عن عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( إِنَّ إِبْرَاهِيم خَلِيلُ اللَّهِ ، وَمُوسَى نَجِيُّ اللَّهِ ، وَعِيسَى رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ ، وَآدَمُ اصْطَفَاهُ اللَّهُ ، أَلا وَأَنَا حَبِيبُ اللَّهِ وَلا فَخْرَ ) وهذا الحديث ضعيف، ضعفه الألباني في ضعيف الترمذي .
وقد سئل الشيخ ابن عثيمين: هل يصح القول للنبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ حبيب الله؟، فقال: " النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حبيب الله لا شك، فهو حاب لله ومحبوب لله، ولكن هناك وصف أعلى من ذلك وهو خليل لله، فالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ خليل الله كما قال ـ صلى الله عليه وسلم : ( إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً ) رواه مسلم، والخلة هي كمال المحبة، ولهذا من وصفه بالمحبة فقط فإنه نزله عن مرتبته، فالخلة أعظم من المحبة وأعلى، فكل المؤمنين أحباء الله، ولكن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مقام أعلى من ذلك وهو الخلة، فقد اتخذه الله خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، لذلك نقول: إن محمداً رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خليل الله، وهذا أعلى من قولنا: حبيب الله لأنه متضمن للمحبة وزيادة لأنه غاية المحبة " .
وقد ثبت عن الإمام التابعي مسروق ـ رحمه الله ـ أنه كان يحدث عن عائشة ـ رضي الله عنها فيقول: " حدثتني الصديقة بنت الصديق حبية حبيب الله "، فاللفظان متقاربان، إلا أن الخلة أفضل وهي أخص من المحبة، فهي تدل على نهاية المحبة كما قال ابن القيم وغيره .

وفي خلته ـ صلى الله عليه وسلم ـ لربه ـ عز وجل ـ بيان لفضله وعلو منزلته، وتمام حفظ الله وتكريمه له، ومن ثم ينبغي الحذر من تنقص مقامه وقدْره، أو الترفع عن طاعته واتباعه، أو الطعن في سنته، لأننا إذا فعلنا ذلك فقد عادينا عبدا اتخذه الله خليلا، فبموجب هذه الخلة يبغض الله باغضه، ويعادي عدوه، وينتقم ممن أساء إليه، وفي المقابل يثبت الخير من الله لكل من أحبه وعظمه، واتبع سنته ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ .

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة