من مآسي التغريب الذي فُرِضَ على أكثر بلاد الإسلام بالقوة المتوحشة، إصرار عبيده المحليين على إقصاء الأخلاق من الميادين العامة: في السياسة والاقتصاد والإعلام الذي نخصه اليوم بهذه الخاطرة، المبنية على استقراء الواقع ورصد مسيرة الإعلام العربي في تطبيقاته القائمة.
ومن أعاجيب عبيد الغرب في ديار المسلمين أنهم في عدائهم للأخلاق في الحياة العامة، تجاوزوا مادية سادتهم الغربيين، الذين اتبعوا قواعد أخلاقية تضبط بصورة نسبية تلك المناشط، بالرغم من أن الفكر الغربي العلماني قام في الأساس على رفض الاعتبارات الأخلاقية في الحياة العامة والفردية، باعتبارها موروثاً دينياً- أو: لأنها تركة القرون الوسطى الكنسية-. ففي الغرب تقاليد راسخة لممارسة الطب وأخرى تلزم الإعلامي بأمانة الكلمة بالمعايير المهنية، لكي يحظى بالثقة في ما يقدمه من أخبار ومعلومات ورأي... حتى لو كانت الغاية نفعية فهنالك حدود دنيا لبعد أخلاقي حاضر في الفكرة وفي الممارسة.
أما الإعلام العربي فهو في أكثريته الساحقة لم يغادر مرتبة المطبل الممجوج إذا كان يتبع حكومات مستبدة متكلسة، أو موقع المهرج البائس إذا كان لرجال أعمال يهمهم الكسب المالي من أي طريق، أو دور الشيطان الأكبر في الإعلام الذي تقوده وتموله جهات غامضة معروفة لها خطط مرسومة لنشر الرذيلة وتعميم الفساد بجميع أشكاله وحقوله.
غير أن الذي أعنيه في هذه العجالة ، يتلخص في جزئية ربما لا يلقي المتابع لها بالاً، لكنه سوف يتذكرها إذا جرى تنبيهه إليها، وهي الفرق الشاسع بين نوعين من ضيوف وسائل الإعلام العربية في البرامج الحوارية الساخنة في الميادين السياسية والفكرية.
نحن هنا لا نقوم بالحكم بالنيابة عن القارئ الكريم ولا نمارس إيحاء ولا توجيهاً، وإنما سنطرح ملاحظات ليست عابرة وإنما هي ثمرة رصد طويل وأمين لهذه البرامج في مختلف الفضائيات الإخبارية، ونترك لكم عقد المقارنات والتثبت من دقة ما نزعم، واستخلاص النتائج الموضوعية والأحكام المنصفة بأنفسكم.
الملاحظة الأولى:
الأصل في الضيف العلماني ومن على شاكلته، خشونة الصوت وارتفاعه ومقاطعة الخصم وتوجيه الشتائم لمخالفيه حتى لو كانوا غائبين عن الحلقة..
والأصل في الضيف الإسلامي نقيض ذلك تماماً: إذ يندر أن تجد ضيفاً إسلامياً بالصفات الذميمة تلك. ولو كان موجوداً جدلاً فإنه لن يتاح له الظهور ثانيةً. أما الزنديق أو داعية الفجور أو ناشر الخرافة فهو ضيف شبه دائم بالرغم من كل موبقاته كضيف لا يحترم القناة ولا البرنامج ولا الجمهور.. بصرف النظر عن رأينا في فكره - بل كفره أحياناً -.
الملاحظة الثانية:
يقول مثل شعبي شائع في أكثر من بلد عربي: "الفاجر أكل مال التاجر". وهذا ما تجده مجسداً في هذه النوعية من الضيوف الذين أشرنا إليهم، فالضيف التغريبي وشاكلته يأخذ وقته ونصف وقت خصمه-بسبب قلة حيائه التي يتصور أنها مهارة!!- ثم يهاجم المذيع ويتهمه بالتحيز إلى الضيف الآخر.
وفي المجوس الجدد وأذنابهم تبلغ الصفاقة مستويات لا يمكن العثور على ما يشبهها في أي مكان في العالم، فهو يحل ضيفاً مثلاً على قناة ما والتي تتحمل تكلفة سفره من بلده ثم إليه ونفقات إقامته في فندق محترم، لكنه يتطاول على القناة ويشتمها ويسب بلدها وقيادتها – طبعاً من حقه أن ينقدها ـ لكن هؤلاء الرعاع لا يعرفون النقد فهم قطيع أمام مالكهم وأسود شرسة إذا أمنوا العقوبة في خارج القفص.
ويكفي مقارنة سلوك هؤلاء بسلوك الإسلاميين في قناة معادية لهم عداء مفضوحاً ، التي يندر أن تستضيفهم في برامج تكال فيها الاتهامات المجانية ضدهم، وإذا استضافت أحدهم - وهذا نادر جداً- فإنها تُضَيِّق عليه وتستفزه وتقاطعه، ومع ذلك لا تكاد تسمع إسلامياً واحداً ينتقد القناة أو دولتها وهو ضيف فيها!!
بالنسبة إلى مسلم مثلي لا أرى غرابة في سلوك التغريبيين الجدد وأشباههم وأشكالهم، فقد تربوا على هذه الوضاعة، كما لا أستغرب أدب الإسلاميين لأنهم بصرف النظر عن تباين أدائهم واختلاف مستوياتهم، ينطلقون من دين أعلى من شأن الأخلاق، إذ وصف رب العالمين نبينا المصطفى صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم بأنه على خُلُقٍ عظيم.. وكفى بذلك شرفاً لا يدانيه شرف، وكفى به أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر. كما قال الحق جل وعلا في محكم التنزيل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب: 21].
ـــــــــــــــــــــــــــــ