في ظل ما يشهده وشهده عالمنا الإسلامي خلال العقود القليلة الماضية من انتكاسات على جميع المستويات، ارتأيت إلى أن أنتهج طرحاً معيَّناً فيما أكتبه، وهو الحديث عن أعلام عالمنا الإسلامي الذين رحلوا تاركين بصمة "سياسية أو دينية أو اجتماعية" سجَّلها لهم التاريخ في صفحاته بمداد من ذهب لتظل مشعَّة إلى الأبد.. وهذا الطَرح لا أبتغي منه الركون إلى قصص هؤلاء العظام والاكتفاء بتداولها والتفاخر بها، بل إضافة إلى ذلك أسعى إلى أن نجعلها نبراساً لنا في وقتنا الحاضر تضيء لنا الطريق للوصول إلى ما وصلوا إليه من إنجازات أسهمت في إعلاء راية الإسلام على وجه هذه المعمورة.. ولقاؤنا في هذا الطرح سيكون مع "المفكر والسياسي ورجل الدولة علي عزت بيغوفيتش".
ولادته ونشأته:
ولد بيغوفيتش في مدينة بوساناكروبا شمال غربي البوسنة عام 1925م في أسرة عريقة بإسلامها، وتعلّم في مدارس مدينة سراييفو التي أمضى حياته فيها، وفيها أكمل تعليمه الثانوي عام 1943م، والتحق بجامعتها، وحصل على الشهادة العليا في القانون عام 1950م، ثم نال شهادة الدكتوراة عام 1962م، وشهادة عليا في الاقتصاد عام 1964م، ويقرأ ويتحدث ويكتب باللغات الأجنبية: الألمانية، والفرنسية، والإنكليزية، مع إلمام جيد بالعربية.
اصطدم بيغوفيتش في وقت مبكر من حياته (16 عاماً) مع السلطة نتيجة اهتماماته الفكرية الإسلامية المغايرة للمواقف الشيوعية، فقد كان من المشاركين في تأسيس جمعية "الشبان المسلمين"، وهي جماعة دينية وسياسية أُسِّست في سراييفو على غرار جماعة "الإخوان المسلمين" في مصر.
وفي عام 1946م قامت الحكومة الشيوعية في البلاد باعتقاله هو وصديقه نجيب شاكر بيه؛ بسبب مساعدتهما على إصدار جريدة "المجاهد"، وبعد خروجهما من المعتقل شَنَّ الشيوعيون حملة أخرى من حملاتهم الضارية ضد جمعية "الشبان المسلمين"؛ ففي عام 1949م قدموا أربعة من أعضائها إلى المحاكمة التي قضت في النهاية بإعدامهم، فضلاً عن اعتقال عدد أكبر منهم بسبب نشاطهم الإسلامي الملحوظ. وفي عام 1983م اعتقل علي عزت مرة أخرى عندما ألَّف كتابه "البيان الإسلامي" الذي قُدِّم بسببه إلى المحاكمة في سراييفو عام 1983م مع 12 مثقفاً بتهمة "الأصولية"، وحكم عليه بالسجن لمدة 14 سنة، ثم أطلق سراحه أخيراً في نهاية 1988م.
استقلال.. ومذابح:
وبعد تصدّع الأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفييتي في عام 1990م، وعدم قدرة تلك الأنظمة المنخورة الفاسدة على كبح جماح الشعوب التي بدأ تململها يظهر على السطح، وبعد عشرات السنين من القمع والاستبداد؛ اضطر الحزب الشيوعي اليوغسلافي إلى السماح بالتعددية السياسية، فاغتنم الدكتور علي عزت بيغوفيتش هذه الفرصة وبادر إلى تأسيس حزب العمل القومي الذي أصبح من أكبر الأحزاب في البوسنة، وأصبح رئيساً له في مايو من العام نفسه، ثم رئيساً للدولة الأوروبية البوسنة والهرسك حتى عام 2000، وأجرى استفتاء شعبياً على الاستقلال عن الاتحاد اليوغسلافي، كما استقلت كرواتيا وسلوفينيا، وصوّت الشعب المسلم على الاستقلال بأكثرية 63%، لكن الغرب لم يرضَ بهذه النتيجة، فشنّ حملة إعلامية ظالمة ضد مسلمي البوسنة، الأمر الذي جعل الصرب الهمج ينقضّون على البوسنة في حرب عرقية دينية دموية، وحرب إبادة شاملة، وتطوع آلاف من نصارى أوروبا للقتال في صفوف الصرب، ووقعت الدولة البوسنية الوليدة بين فكي كماشة، فالصرب من جهة، والكروات من جهة أخرى، فاستطاعوا تمزيقها، وكادوا يجهزون على شعبها الأعزل الآمن.
جرى هذا على مرأى ومسمع من الأوروبيين والأمريكان، وعلى مرأى ومسمع من هيئة الأمم المتحدة التي كانت قد اعترفت بجمهورية البوسنة والهرسك وأصبحت الأخيرة عضواً فيها؛ دون إظهار أي رد فعل ضدَّ هذه المجازر بحق هؤلاء المسلمين، تاركين الصرب والكروات وعصابات (الشِّتْنك) الصربية الإرهابية ومن انضمّ إليها من نصارى أوروبا، يفتكون بالمسلمين، ويرتكبون المجازر الجماعية التي لم تُكتشف بعد كل مقابرها الجماعية، ويغتصبون نحو مائة ألف امرأة وفتاة مسلمة.. وكان على شعب البوسنة والهرسك أن يختار بين الانضمام إلى الكروات أو الصرب، الخصمين اللدودين اللذين لا يجتمعان إلا على حرب المسلمين، والرئيس علي عزت كان يسعى ويفكر في الطريقة التي تجنّب شعبه ما يمكن من الخسائر، فكان يتحرك هنا وهناك، ويعرض مقترحاته وأفكاره، ويضطر إلى التراجع أمام التواطؤ الغربي الأمريكي الذي لم يتحرك إلا عندما رأى الصمود الأسطوري لذلك الشعب المسلم الذي بدت كفّته القتالية ترجح على الصرب الأوباش.
من أجل إنقاذ شعبه، تقدّم الرئيس علي عزت بحلّ وسط إلى قمة رؤساء الجمهورية في فبراير 1991م يتمثل في إقامة (فيدرالية متناسقة)، وكان هذا المشروع كفيلاً بإنقاذ يوغسلافيا من التمزق والانهيار، ومن الحرب الأهلية بين الجمهوريات والأعراق؛ لذلك حظي بدعم الجماعة الأوروبية.
رئيس غير عادي:
لم يكن بيغوفيتش رئيساً عادياً كسائر رؤساء الجمهوريات الذين تسلموا هذا المنصب في العالم الإسلامي، بل كان: سياسياً داهية، ومناضلاً عنيداً، ومفكراً عميقاً، وذا نظرة إسلامية بعيدة جعلته يتجاوز حدود البلقان إلى سائر أنحاء العالم الإسلامي، ليحمل هموم المسلمين حيث كانوا، ويعمل مع العاملين لنهوض المسلمين، بعد تخليصهم من التخلف الذي أطمع الغرب والشرق بهم، وهذا ما أهَّله للفوز بعديد من الجوائز، منها: جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام عام 1993م، وجائزة (مفكر العام) من مؤسسة علي وعثمان حافظ عام 1996م، وجائزة جلال الدين الرومي الدولية لخدمة الإسلام في تركيا، وجائزة الدفاع عن الديموقراطية الدولية من المركز الأمريكي للدفاع عن الديموقراطيات والحريات، وجائزة دبي الدولية للقرآن الكريم (رمضان 1422هـ)، تقديراً لجهوده في خدمة الإسلام والمسلمين.
وفاته:
توفي المفكر والسياسي ورجل الدولة علي عزت بيغوفيتش يوم الأحد 19 أكتوبر 2003م عن عمر ناهز 78 عاماً، ولم يتمكن مسلمو البوسنة من إعلان الحداد الرسمي عليه، فقد اعترض على ذلك ممثل الصرب في الرئاسة الجماعية؛ لأن الصرب الحاقدين يعدّون الرئيس علي عزت عدوّهم اللدود الذي وقف في وجه أطماعهم في ابتلاع البوسنة والهرسك من أجل إقامة إمبراطورية صربية طالما حلموا بها.
من أقوال علي عزت بيغوفيتش:
- "هكذا تصنعون طواغيتكم".. وذلك عندما وصل ذات مرة إلى صلاة الجمعة متأخراً وكان قد اعتاد الصلاة في الصفوف الأمامية، ففتح له الناس الطريق إلى أن وصل إلى الصف الأول فاستدار للمصلين بغضبٍ وقال لهم هذه المقولة.
- إن تقدُّم الإسلام - مثل أي تقدم آخر - سيتحقق على أيدي الشجعان الثائرين، لا على أيدي الوديعين المطيعين.
- كل ثورة حقيقية تتميز بسمات معينة تشتمل على الإيمان والرغبة العارمة في التضحية والموت، كل هذه المشاعر أبعد ما تكون عن المصلحة.
- المسلم بين خيارين لا ثالث لهما.. إما أن يغيّر العالم، وإما أن يستسلم للتغيير.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ