رغم مضي شهور على نهاية الجلسة السابعة والخمسين لمفوضية وضع المرأة بالأمم المتحدة التي خرجت باتفاق دولي للقضاء على العنف ضد المرأة، ما تزال أقلام إعلامية، وشخصيات بارزة في الصحافة وبعض ما يسمى مؤسسات المجتمع المدني في مختلف البلدان العربية تدندن حوله، فلا يكاد يمر يوم واحد دون تناول الموضوع بصورة أو بأخرى. وليس هذا بالمستغرب، فقد أكدت مسودة الجلسة على أهمية القيام بحملات ترويجية تستخدم فيها وسائل التواصل المختلفة، والشخصيات البارزة بمن فيهم القيادات الدينية – بنص الوثيقة!- للقضاء على العنف والتمييز ضد النساء، وتغيير السلوكيات والممارسات التي تديم التمييز والعنف!
مقصودهم للعنف:
ولا يظنن ظان أن العنف المقصود هو الإيذاء، وأن التمييز المعني قرين الظلم، لكن التمييز المقصود هو: "أي تفرقة، أو استبعاد، أو تقييد يتم على أساس الجنس، ويكون من آثاره أو أغراضه: توهين، أو إحباط الاعتراف للمرأة بحقوق الإنسان والحريات الأساسية في الميادين السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والمدنية، أو في أي ميدان آخر، أو توهين أو إحباط تمتعها بهذه الحقوق أو ممارستها لها، بصرف النظر عن حالتها الزوجية، وعلى أساس المساواة بينها وبين الرجل" . فكل تفرقة بين الجنسين سلبية كانت أو إيجابية تمييز ولو كانت تحفظ خصوصيتها! وأي استبعاد للمرأة من أي ميدان تمييز ولو كانت رياضة المصارعة أو رفع الأثقال! وأي تقييد للحريات للمرأة في أي جانب تمييز! بصرف النظر عن حالتها الزواجية! وبعد هذا التعميم نصت الاتفاقية على بعض الجوانب التي ينبغي فيها التساوي بين الجنسين مثل: الاستحقاقات الأسرية كالميراث وقسمة الأملاك بعد الطلاق، وفرص ممارسة الأهلية القانونية ، فشهادتها كشهادة الرجل، وتشهد فيما فيه يشهد، ومما يجب التساوي فيه الحق في عقد الزواج فلها أن تتزوج ممن تشاء أياً كان دينه ولها فسخه ممن لم يعجبها كالرجل تماماً، وغيرها مما يخالف نصوصاً صريحة في القرآن والسنة، لا مجرد الاجتهادات الفقهية القديمة التي لا تناسب العصر كما يزعم بعض الكتاب الذين يهرفون بما لا يعرفون.
أما العنف الذي يعنون فهو كما جاء في ديباجة إعلان العنف لسنة 1993: "مظهر لعلاقات قوى غير متكافئة بين الرجل والمرأة عبر التاريخ أدت إلى هيمنة الرجل على المرأة، وممارسته التمميز ضدها، والإحالة دون نهوضها الكامل! وأن العنف ضد المرأة هو من الآليات الاجتماعية الحاسمة التي تفرض بها على المرأة وضعية التبعية للرجل"! فالقوامة على هذا مظهر من مظاهر العنف! ونص الإعلان على أن مما يشمله العنف ضد المرأة؛ اغتصاب الزوجة.
نعم نصت اتفاقية القضاء على التمييز، وإعلان القضاء على العنف على تجريم بعض ما يتفق البشر على تجريمه، لكن ليس هذا ما ينكره الناصحون، ولكن ما تنطوي عليه من السم الكافي للقتل.
الملفت للنظر في الحملة الترويجية هذه أن جميع من قرأت لهم، أو سمعت منهم، رغم تناولهم للموضوع من زوايا مختلفة أكدوا على أن الإعلان لم ينص على أي شيء يهدد الأسر، أو يمس التشريعات! وأن كل من يقول غير هذا مدلس كذاب! ومن سلم بأن الإعلان فيه بعض التفصيلات التي لا تناسب بعض الثقافات زعم أن من حق الدول التحفظ على ما لا يناسبها. وهذا قد يكون جهلاً بمقررات الإعلان المنشورة، يقارنه استخفاف بمسؤولية الكلمة، واستهتار بعقول القارئين، واستكبار عن البحث في وجه قول الناصحين! وكثير منه تدليس وكذب وهما أميز سمات كثير من هؤلاء المروجين، فيكذبون وهم يعلمون، اعتمادا على أن الناس لا تقرأ ما هو مذاع منشور في موقع الأمم المتحدة وغيرها. ومن ذلك:
أولاً: زعم كثير منهم أن الوثيقة اتفاقية يمكن التحفظ عليها، وهذا جهل أو تلبيس فما يروجون له إعلان لا اتفاقية. والمعروف في القانون الدولي أن الاتفاقيات تلزم الأطراف المصادقة عليها، ويجوز للدول التحفظ على ما لا يتعارض مع الغرض الذي وضعت له، فلو تحفظت على شيء يخالف غرض الاتفاقية فلا قيمة قانونية للتحفظ مع البقاء في الاتفاقية بنص اتفاقية فينا للمعاهدات، أما الإعلانات فهي مبادئ وقواعد متفق عليها، ليست ملزمة بمجردها، لكن تنعكس أحكامها على القانون الدولي العرفي، وقد تكتسب طابع الإلزام كقانون عرفي في مرحلة لاحقة، فتنبني الاتفاقيات اللاحقة عليها، كما هو الحال مع إعلان عام 1948 العالمي لحقوق الإنسان، ثم يوجبون بموجب ذلك الإعلان تعديل القوانين الداخلية، ويرعون مقرراته في التشريعات الدولية. فالكلام عن إمكانية التحفظ ليس صحيحاً، ولا محل له في الإعلانات "كإعلان العنف هذا" أصلاً؛ لأن الإعلان يضم ما اتفق عليه فقط. وفي إعلان القضاء على العنف ضد المرأة (2013) هذا اتفق على كل ما ورد في المسودة الأساسية، وما أضيف إليها أثناء الجلسات، واستبعد فقط من تعريف العنف ضد المرأة ثلاث قضايا هي: الاغتصاب الزوجي، ومنع الإجهاض، والتمييز بين السويات والمساحقات والمتحولات جنسياً، مقابل سحب اقتراح الوفد المصري بتفادي تنفيذ الإعلان إذا تعارض مع القوانين الوطنية، أو القيم الدينية، أو الثقافية لأنه يقوض الإعلان من أساسه كما أعلن . أما موضوع التحفظ على بعض ما في الإعلان دون عرقلة له فهو في الحقيقة إمضاء للإعلان مع تسجيل موقف إعلامي مخصص للاستهلاك المحلي، تماماً مثل الشجب والإدانة للمجازر التي تستهدف المسلمين هنا وهناك دون عرقلة الجزار!
ثانياً: المروجون للإعلان يعتمدون على ضعف الثقافة العامة بمثل هذه القضايا، فيسرحون ويرتعون ويطلقون لخواطرهم العنان في التخيلات والأوهام التفسيرية وكأنهم من وضع الوثيقة. وليت الأمر يقف عند مجرد التنظير الذي هو أقرب للتمني الساذج! بل فيهم من يتجاسر ليجهل هذا، ويلمز ذاك، ويتهم أولئك بالهوس الديني مرة، والدعوة للظلم والقهر كرة. يتهم الروابط الشرعية والمجامع العلمية كلها بإهمال الاختلافات الفقهية، والجهل بصياغة الاتفاقيات الدولية، ثم لا يجد أدنى حرج في الجزم بأن أحكام الشرع وسيداو يخرجان من مشكاة واحدة! لكنه مع ذلك يدعو لتطبيق سيداو دون أحكام الشريعة! لأن الأحكام الفقهية في ظنه تخضع لاجتهادات الفقهاء المتباينة! بينما الاتفاقيات الدولية عامة تخضع لتفسير المجتمعات لها! مع أنه يغلط هذا في تفسيره ويخالف ذاك بهواه، عالماً أو جاهلاً بأن لتلك الاتفاقيات محاكم مختصة ومذكرات تفسيرية! وجهات متابعة وإلزام يرجع إليها! كما في الأحكام الشرعية عند الاختلاف.
ثالثاً: دعوة هؤلاء المروجين تقول للمثقفين القراء باختصار كونوا بلهاء! عليكم أن تكذبوا أعينكم إن رأيتم أي تفصيلات تخالف الدين في مواد سيداو الثلاثين! وفسروا – مثلاً- النص الذي يحظر التذرع بالأديان والأعراف في إعلان العنف 1993! وفق ما تشتهون لا ما يريده واضعوه!
ويبدو أن هؤلاء المروجين، وكثير منهم من ديناصورات الإعلام، ومومياوات المؤسسات النسوية، لم يستوعبوا بعد أن مصادر المعلومات باتت في متناول الجميع، وأنهم يؤدون بالضبط دور الوزير الصحاف عندما كان يعلق على صور الدبابات الأمريكية وهي على مداخل بغداد، قائلاً: إنها صور مفبركة صورت في هوليوود، وأن الأمريكان "الطراطير" ما يزالون يراوحون حول أم قصر! وبعد يوم واحد فقط اختفى الصحاف إبقاء على حياته، ورأى الناس بعض الجنود الأمريكان وهم يكسرون تمثال صدام وسط بغداد!
فيا أيها الصحفي، تذكر أنك تعيش في زمان يهيمن فيه "الطراطير"، ويتغلب فيه الجرذان. فارفق بنفسك ولا تحرق أوراقك أيها الوراق!
ـــــــــــــــــــــــــــــ
- الكاتب:
أسماء عبد الرازق - التصنيف:
الإعلام