لفظ (التوبة) من الألفاظ المركزية في القرآن الكريم، بل ثمة سورة برأسها تسمى سورة التوبة؛ وما ذلك إلا لأن التوبة باب عظيم من أبواب الرجوع إلى الله، وهي طريق لتصحيح العبد مساره في هذه الحياة، ولضبط توجيهه نحو خالقه وبارئه، فالحياة محفوفة بالشهوات ومليئة بالمغريات، ومن يَسْلَم من الذنوب في هذه الحياة؟ فما هي الدلالة اللغوية للفظ (التوبة)، وما هي المعاني التي ورد عليها في القرآن؟ هذا بيان ذلك:
يدل لفظ (التوبة) لغةعلى الرجوع، يقال: تاب من ذنبه، أي: رجع عنه، ويتوب إلى الله توبة ومتاباً، فهو تائب. والتوب: التوبة. قال الله تعالى: {وقابل التوب} (غافر:3)، أي: التوبة. ويقال: (التائب) لباذل التوبة، ولقابل التوبة، فالعبد تائب إلى الله، والله تائب على عبده. و(التواب) العبد الكثير التوبة، وذلك بتركه كل وقت بعض الذنوب على الترتيب حتى يصير تاركاً لجميعه، وقد يقال ذلك لله تعالى لكثرة قبوله توبة العباد.
والتوبة في الشرع: ترك العبد الذنبَ لقبحه، والندمُ على ما فرط منه، والعزيمة على ترك المعاودة، وتدارك ما أمكنه أن يتدارك من الأعمال بالأعمال بالإعادة، فمتى اجتمعت هذه الأربع فقد كملت شرائط التوبة.
وقد ورد لفظ (التوبة) في القرآن الكريم في سبعة وثمانين موضعاً، جاء في ثلاثة وستين منها بصيغة الفعل، من ذلك قوله عز وجل: {وتوبوا إلى الله جميعا} (النور:31)، وجاء في أربعة وعشرين موضعاً بصيغة الاسم، من ذلك قوله سبحانه: {إنما التوبة على الله} (النساء:17).
و(التوبة) في القرآن الكريم جاءت على معان، نذكر منها:
الأول: بمعنى الرجوع، والإنابة. من ذلك قوله تعالى: {لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم} (التوبة:117)، أي: رزقهم جل ثناؤه الإنابة والرجوع إلى الثبات على دينه، وإبصار الحق الذي كاد يلتبس عليهم. ونحو هذا قوله عز وجل: {ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات} (الأحزاب:73)، أي: يرجع بهم إلى طاعته وأداء الأمانات التي ألزمهم إياها حتى يؤدوها. ونحوه أيضاً قوله عز وجل: {إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا} (البقرة:160)، أي: رجعوا عما كانوا فيه، وأصلحوا أعمالهم وأحوالهم، وبينوا للناس ما كانوا كتموه. وأكثر ما جاء لفظ (التوبة) في القرآن الكريم على هذا المعنى. والتوبة بحسب هذا المعنى غالباً ما تتعدى بحرف الجر (إلى)، قال تعالى: {وتوبوا إلى الله جميعا} (النور:31)، وقال سبحانه: {إني تبت إليك} (الأحقاف:15).
الثاني: بمعنى التجاوز والعفو. من ذلك قوله عز وجل: {فتاب عليكم} (البقرة:187)، أي: عفا سبحانه عن ذنوبكم، وعظيم ما ارتكبتم، وصفح عن جُرْمكم. ومن هذا القبيل قول الباري سبحانه: {وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم} (المائدة:71)، أي: تجاوز عما كانوا فيه من المعاصي. وعلى هذا المعنى أيضاً قوله تعالى: {فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم} (المجادلة:13)، قال البغوي: تجاوز عنكم، ولم يعاقبكم بترك الصدقة. و(التوبة) بحسب هذا المعنى غالباً ما تتعدى بحرف الجر (على). وهي وفق هذا المعنى جاءت كثيرة في القرآن الكريم أيضاً.
الثالث: بمعنى الإيمان. من ذلك قوله سبحانه: {فاستقم كما أمرت ومن تاب معك} (هود:112)، قال البغوي: أي: استقم على دين ربك، والعمل به، والدعاء إليه كما أمرت، وأُمر من آمن معك بأن يستقيموا على الحق، الذي أُمرت به.
الرابع: بمعنى التخفيف والرخصة والإباحة. من ذلك قوله تبارك وتعالى: {علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم} (البقرة:187)، قال القرطبي: يحتمل معنيين: أحدهما: قبول التوبة من خيانتهم لأنفسهم. والآخر: التخفيف عنهم بالرخصة والإباحة. ومن هذا القبيل قوله عز وجل: {علم أن لن تحصوه فتاب عليكم} (المزمل:20)، قال البغوي: فعاد عليكم بالعفو والتخفيف. ويدخل في هذا المعنى قوله سبحانه: {أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم} (المجادلة:13)، قال ابن كثير: فوسع الله عليهم، ولم يضيق. ومنه أيضاً قوله سبحانه في كفارة القتل خطأً: {فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله} (النساء:92)، قال الطبري: يعني: تجاوزاً من الله لكم إلى التيسير عليكم، بتخفيفه عنكم ما خفف عنكم من فرض تحرير الرقبة المؤمنة إذا أعسرتم بها، بإيجابه عليكم صوم شهرين متتابعين.
الخامس: بمعنى التوفيق للدخول في الإسلام، وعليه قوله تعالى: {ويتوب الله على من يشاء} (التوبة:15)، قال الطبري: أي: يوفق سبحانه من يشاء من المحاربين لدينه للدخول في الإسلام، ويزينه في قلوبهم ويكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، والآية جاءت في سياق قوله عز وجل: {قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين} (التوبة:14).
السادس: التوبة بمعنى الرحمة. جاء على هذا المعنى قوله عز وجل: {ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم} (آل عمران:128)، أي: ليس لك من الحكم شيء في عبادي، إلا ما أمرتك به فيهم، أو أتوب عليهم برحمتي، فإن شئت فعلت، أو أعذبهم بذنوبهم.
السابع: التوبة بمعنى قبول التوبة، جاء على هذا المعنى قوله سبحانه: {ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا} (الفرقان:71)، أي: فإن الله يقبل توبته. هذا ما ذكره ابن كثير في هذه الآية. وقال البغوي: المعنى: يعود إليَّ بعد الموت، فالتوبة الأولى، وهو قوله: {ومن تاب} رجوع عن الشرك، والثاني رجوع إلى الله للجزاء والمكافأة.
وحاصل القول: إن لفظ (التوبة) جاء في القرآن الكريم على عدة معان، وأكثر ما جاء بمعنى (الرجوع)، و(الإنابة)، وهو الأصل في معناه اللغوي، وجاء بدرجة أقل بمعنى (التجاوز)، و(العفو)، وجاء على قلة بمعنى (الرخصة)، و(التخفيف)، وورد أيضاً بمعان فرعية، سبق الإشارة إليها.
- الكاتب:
إسلام ويب - التصنيف:
ألفاظ قرآنية