• يا نفس، إذا كانت الهداية إلى الله مصروفة، والاستقامة على مشيئته موقوفة، والعاقبة مغيبة، والإرادة غير مغالبة، فلا تُعجبي بإيمانك وعملك وصلاتك وصومك وجميع قربك، فإن ذلك وإن كان من كسبك فإنه من خلق ربك وفضله الدارِّ عليك وخيره، فمهما افتخرت بذلك كنت كالمفتخرة بمتاع غيرها وربما سُلب عنك فعاد قلبك من الخير أخلى من جوف البعير، فكم من روضة أمست وزهرها يانع عميم فأصبحت وزهرها يابس هشيم، إذ هبت عليها الريح العقيم، كذلك العبد يمسي وقلبه بطاعة الله مشرق سليم فيصبح وهو بمعصية الله مظلم سقيم، ذلك فعل العزيز الحليم الخلاق العليم.
• يا نفس، مالك من صبر على النار، نوم بالليل وباطل بالنهار وترجين أن تدخلي الجنة هيهات هيهات، متى العمل فاستيقظي يا نفس ويحك، واحذري حذرا يهيج عبرتي ونحيبي، وتجهزي بجهاز تبلغين به شاطئ الأمان، فلم ينل المطيعون ما نالوا من حلول الجنان ورضا الرحمن إلا بتعب الأبدان، والقيام لله بحقه في المنشط والمكره.
• يا نفس، ما أصعب الانتقال من البصر إلى العمى، وأصعب منه الضلالة بعد الهدى، والمعصية بعد التقى، كم من وجوه خاشعة وقعت على قصص أعمالها (عاملة ناصبة تصلى نارا حامية)، وكم من شارف مركبه ساحل النجاة فلما هم أن يرتقي لعب به موج فغرق الخلق كلهم تحت هذا الخطر، فقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، ما العجب ممن هلك كيف هلك إنما العجب ممن نجا كيف نجا.
• يا نفس، كيف يوفق لحسن الخاتمة من أغفل الله سبحانه قلبه عن ذكره واتبع هواه وكان أمره فرطا؟! فبعيد من قلبه بعيد من الله تعالى، غافل عنه متعبد لهواه أسير لشهواته، لسانه يابس عن ذكره، وجوارحه معطلة عن طاعته مشتغلة بمعصيته فبعيد عن هذا أن يوفق للخاتمة بالحسنى.
• يا نفس، أما الورعون فقد جدوا، وأما الخائفون فقد استعدوا، وأما الصالحون فقد فرحوا وراحوا وأما الواعظون فقد نصحوا وصاحوا، العلم لا يحصل إلا بالنصب، والمال لا يجمع إلا بالتعب، فإن حرصت على الخلاص فاعلمي أنه من عزم بادر ومن هم ثابر، ولا ينال العز والمفاخر من كان في الصف الآخر.
• يا نفس، بادري بالأوقات قبل انصرامها واجتهدي في حراسة ليالي الحياة وأيامها، فكأنك بالقبور وقد تشققت وبالأمور وقد تحققت وبوجوه المتقين وقد أشرقت وبرؤوس العصاة وقد أطرقت قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} (السجدة:12).
• يا نفس، أما لك في الصالحين أسوة:
- كان عامر بن عبد الله بن قيس التابعي قد جعل عليه كل يوم ألف ركعة فلا ينصرف منها إلا وقد انتفخت قدماه وساقاه ثم يقول لنفسه: "يا نفس، بهذا أمرت ولهذا خلقت يوشك أن يذهب العناء، يا نفس إنما أريد إكرامك غدا، والله لأعملن بك عملا حتى لا يأخذ بالحق منك نصيب، قومي يا مأوى كل سوء فوعزة ربك لأزحفن بك زحف البعير، ولئن استطعت أن لا يمس الأرض من زهمك لأفعلن، ثم يتلوى كما تتلوى الحية على المقلى، ثم يقوم فينادى: اللهم إن النار قد منعتني من النوم فاغفر لي".
- وكان زياد بن زياد مولى ابن عياش يخاصم نفسه في المسجد فيقول: "اجلسي، تريدين الخروج؟ أين تذهبين؟ أتخرجين إلى أحسن من هذا المسجد، انظري إلى ما فيه. تريدين أن تبصري دار فلان ودار فلان ودار فلان، ما لك من الطعام يا نفس إلا هذا الخبز والزيت، وما لك من الثياب إلا هذين الثوبين، وما لك من النساء إلا هذه العجوز".
- وقال الجنيد: أرقت ليلة وفقدت حلاوة وردي ثم اضطجعت لأنام فتمايلت حيطان البيت وكاد السقف أن يسقط فخرجت فإذا برجل ملتف بعباءة مطروح في الطريق، فقال إلي الساعة، قلت موعد قال: بلى، سألت محرك القلوب أن يحرك قلبك، قلت: قد فعل، قال: متى يصير داء النفس دواءها؟، قلت: إذا خالف هواها، قال: يا نفس اسمعي أجبتك به مرات فأبيت إلا أن تسمعيه من الجنيد ثم انصرف.
- وقال إبراهيم التيمي: مثلت نفسي في النار أعالج أغلالها وسمومها، آكل من المثخن وأشرب من زمهريرها: فقلت: يا نفس إيش تشتهين؟ قالت: أرجع إلى الدنيا فأعمل عملا أنجو به من هذا العقاب، ومثلت نفسي في الجنة مع حورها، ألبس من سندسها وإستبرقها وحريرها، قلت: يا نفس إيش تشتهين؟ قالت: أرجع إلى الدنيا فاعمل عملا ازداد فيه من هذا الثواب، قلت: فأنت في الدنيا وفي الأمنية فاعملي.
- وكان معروف الكرخي يضرب نفسه ويقول: يا نفس، كم تبكين، أخلصي وتخلصي.
- وقال عبد الرحمن بن مهدي: أدركت امرأة لا أقدم عليها رجلا ولا امرأة ممن أدركت، كانت إذا أصبحت قالت: يا نفس هذا اليوم ساعديني يومي هذا فلعلك لا ترين بياض يوم أبدا، وإذا أمست قالت: يا نفس هذه الليلة ساعديني ليلتي هذه فلعلك لا ترين ظلمة ليلة أبدا، فما زالت تخدع وتدفع يومها بليلتها وليلتها بنهارها حتى ماتت على ذلك.
- وعن مسمع بن عاصم المسمعي قال: كانت بالبحرين امرأة عابدة يقال لها: «منيفة» فكانت إذا هجم الليل عليها، قالت: بخ بخ يا نفس، قد جاء سرور المؤمن، فتتحزم وتلبس وتقوم إلى محرابها فكأنها الجذع القائم حتى تصبح، فإذا أصبحت وأمكنت الصلاة فإنما هي في صلاة حتى ينادى بالعصر فإذا صلت العصر هجعت إلى غروب الشمس، فكان هذا دأبها، فقيل لها: لو جعلت هذه النومة في الليل كان أهدأ لبدنك. فقالت: لا والله لا أنام في ظلمة الليل ما دمت في الدنيا، فمكثت كذلك أربعين سنة.
وكيف تحب أن تدعى حكيما وأنت لكل ما تهوى ركوب
وتضحـك دائـما ظهرا لـبطن وتذكـر ما عـملـت فلا تتوب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
د. خالد سعد النجار