إن من الأساسيات الراسخة التي أرساها الأئمة إقرارهم بالاختلاف وأنه حتمية لا سبيل إلى تجاوزها أو إلغائها ، ولكن سبيلها البحث والعلم والتحري ، وهذا معيار لأهمية البناء العلمي الذي بموجبه جرى الخلف بينهم .
وإقرارهم بالإخاء والحب الذي هو برهان على أهمية البناء الأخلاقي الذي بموجبه جرى التصافي .
وقد نجد من بعدهم من اختلفوا فتحاربوا ، ونجد من توادعوا وتساكنوا لكن على غير علم ومعرفة .
ولذا صرفوا جل وقتهم في التعلم والتعليم ، وكان أبو حنيفة فقيه أهل العراق بغير منازع ، ومالك فقيه المدينة والحجاز ، ولم يُفت حتى شهد له أربعون من علماء المدينة ، وهو من أثبت الناس في الحديث ، والشافعي إمام في العديد من العلوم ، كاللغة والفقه والأصول ، ومن ثقات المحدثين ، وأحمد كان من الحفاظ الكبار .
كان أبو حنيفة أميل إلى الفقه ، وأحمد أميل إلى الحديث ، ومالك والشافعي وإن كانوا معدودين في مدرسة الحديث إلا أن لهم بصراً وأخذاً في الفقه قلّ نظيره .
وكان مالك يقول للعمري : (طلب العلم ليس أقل من العبادة لمن صلحت نيته).
وقال الشافعي : (طلب العلم أفضل من صلاة النافلة).
فحفظوا مقام العلم ، كما حفظوا مقام الأخلاق ، وأيّ علم بغير أخلاق فهو علم بلا عمل ، أو هو صورة العلم لا حقيقته ، فإن من أعظم العلم معرفة القطعيات ، ومن أعظم القطعيات معرفة القطعيات العملية ، ولذا فقد اتفقوا واتفقت الأمة كلها على وجوب محبة المؤمنين بعضهم بعضاً ، وعلى تحريم التباغض والتحاسد بين المؤمنين ، وعلى أن رباط الإخاء الإيماني لا يزول إلا بزوال أصل الإيمان من القلب ، وإن كان يتفاوت بتفاوته ، كما اتفقوا على حفظ الحقوق المنصوصة ، والالتزام بالأخلاق المفترضة بين الناس .
قال يونس الصدفي : ما رأيت أعقل من الشافعي ، ناظرته يوماً في مسألة ثم افترقنا ، ولقيني فأخذ بيدي ، ثم قال : يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة.
وقد يستوحش الشيوخ من الأقوال التي تطرق آذانهم لأول مرة ، ولم يسمعوها من أساتذتهم فينكرونها ، ثم يكون الغضب واللجاج وتراكم المشاعر السلبية المفضية إلى التفرق .
ويحسن في هذا السياق إيراد كلمة الإمام أحمد -رحمه الله- : " لم نزل نلعن أهل الرأي ويلعنوننا حتى جاء الشافعي فأصلح بيننا ".
لم يتحول الأمر إلى اصطفاف عقائدي مؤدلج ضد أهل الكوفة بحيث يكون معقد الولاء والبراء عليه ، ولا خلط الأئمة بين الأصول الثابتة المحكمة ، وبين الفروع المتغيرة الاجتهادية ، ومن هنا رحبوا بمدرسة الإمام الشافعي الجامعة ، والتي فيها قبس من مالك ، وآخر من أبي يوسف ، وشعبة من العراق ، وأخرى من الحجاز ، وتم لها النضج في مصر فجمعت ما تفرّق في البلاد .
وهكذا تكون المدارس التربوية أو الفقهية المتخالفة بحاجة إلى استعداد نفسي صادق لفهم المخالفين والتماس العذر لهم ، وترحيب بالمشروع العملي الميداني لتقريب وجهات النظر ، أو لتخفيف حدة النزاع .
وكان من جراء هذا التواضع العلمي ، والاستعداد النفسي ، مراجعة الأئمة لآرائهم ومواقفهم واجتهاداتهم وتعديلها إذا اقتضى الأمر .
كان للشافعي قول قديم بالعراق ، وأحدث قولاً جديداً بعد انتقاله إلى مصر ، كان ذلك بسبب زيادة علمه وفهمه ، وبسبب نضجه الحياتي ، ومعايشته بيئة جديدة مختلفة عما عرف من قبل ، وفيها عوائد وأعراف وأحوال لم يعهدها في العراق ، فضلاً عن السن الذي وصل إليه ومن الحجة للشافعي في ذلك ما تواتر من الفروق بين مجتمع المدينة ومجتمع مكة ، وقد ألف المناوي كتاباً سماه (فرائد الفوائد في اختلاف القولين لمجتهد واحد) ، وقد وجد في كل مذهب من المذاهب الأربعة روايتان أو قولان للإمام نفسه في مسائل عديدة .
يقول أبو يوسف : " ما قلت قولاً خالفت فيه أبا حنيفة ، إلا وهو قد قاله ثم رغب عنه " .
وقد خالف أبو حنيفة هنا نفسه ، ثم خالفه تلاميذه في معظم مسائل المذهب ، مع رجوعهم إلى الأصول والقواعد التي كان يقول بها .
وفي مذهب مالك نقل عنه إلى العراق نحو سبعين ألف مسألة ، فاختلف الناس في مذهبه لاختلاف نشرها في الآفاق .
أما في المذهب الحنبلي فثمّ ما يعرف بالوجهين والقولين ، والتي جمعت في طائفة كبيرة من كتب التلاميذ والرواة .
والمذهب الحنبلي غني بالروايات المتعددة ، التي تكون أحياناً بعدد الأقوال المأثورة في المسألة ، وفي المغني وغيره شيء كثير من ذلك .
وهذا يعود إلى طبيعة المسائل الفرعية وأن الأمر فيها قريب كما قال ابن تيمية.
إن الرجوع إلى رأي المخالف لا يكون إلا من إمام صادق ، مراده الله والدار الآخرة ، وهم كانوا كذلك .
لم يذعنوا لأتباعهم وتلاميذهم ، ولا فتحوا آذانهم لنقل الحديث عن زيد وعبيد ، على سبيل الذم والوقيعة وإيغار الصدور ، ولا حزبوا من وراءهم على طاعتهم واتباعهم ، وعيب مخالفيهم ، ولم يكونوا مذعنين لإرادة الطلاب ، ولا مأخوذين بكثرتهم ، بل كانوا مستقلين استقلالاً ذاتياً عن الأتباع مع حفظهم لحقوقهم ومقاماتهم .