أصبح للإعلام اليوم دور أساسي في نهوض الأمم وتقدُّم الشعوب نحو تحقيق أهدافها، ووصل الأمر بالإعلام الحديث إلى مستوى أصبح هو الفاعل والمؤثر الأقوى في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية على وجه العموم، وأوجد معياراً أخلاقياً عالي المستوى، يدخل بشكل مباشر في المبادئ الإنسانية ويشِّكل سلطة معرفية وأخلاقية.
وقد نبه الرئيس الأمريكي جيرالد فورد في سبعينات القرن الماضي إلى النفوذ المتزايد لتأثير هذه الوسيلة الإعلامية الجديدة في الحياة السياسية، فقال في وصف التلفزيون: "إن التلفزيون هو الآلة الجديدة التي يتم بواسطتها عملية إقناع الشعب الأمريكي"، فلا يمكن تجاهل التأثير الاجتماعي لوسائل الإعلام على اختلافها، فالإعلام الحر ليس غاية وحسب؛ ولكن وسيلة لتحقيق التحول الاجتماعي.
إن قدرة الإعلام الاجتماعي على الوصول إلى دائرة التأثير والتغيير دفعت بشمعون بيريز في افتتاح مؤتمر (هرتزليا) للأمن القومي للتنويه بهذا الدور في ثورتي تونس ومصر.
الإعلام التونسي بداية التغيير:
يدرك أهل تونس أن العالم الافتراضي لشبكة الإنترنت هو مَن صنع ثورة (الياسمين)؛ حيث ساهم الحشد الجماهيري على موقع (فيس بوك) بتجاوز خطاب أحزاب المعارضة وقفز بالحركات الشعبية إلى مرحلة متقدمة من التخطيط أنضجت ثورة الياسمين.
ففي تونس يوجد أكثر من مليون مستخدم لموقع (فيس بوك)، وفي الحالة التونسية شهد موقع (فيس بوك) تحولاً في وظيفته من موقع للتواصل الاجتماعي إلى سلطة خامسة بعد انسداد الفضاءات الواقعية، كما لعب دوراً مهمّاً في فك الحصار عن الثورة التونسية عندما كانت في بداياتها.
مصر الانتصار الافتراضي:
يوجد في مصر ما يقرب من 16 مليون مستخدم للإنترنت، ومنذ 25 يناير، تحوَّل المدوِّنون المصريون إلى مصدر للمعلومات، وخاصة بعد التعتيم المفروض على وسائل الإعلام؛ حيث تمتلئ صفحات الإنترنت بمداخلات يومية لناشطين إلكترونيِّين، وأفلام فيديو حول السيارات التي تدعس المحتشدين بوحشية وحالات القتل من قِبَل رجال الأمن والاعتقالات، وموقف المحتجين في الشارع من التطورات السياسية المتلاحقة...وغيرها من الأخبار.
الإعلام الاجتماعي المؤثر:
إن الاستعانة بوسائل الإعلام الاجتماعية في التعبير عن الاحتجاجات ودعوة الجماهير إلى المطالبة بحقوقهم وإسقاط حكومات يعود تاريخه إلى 17 (يناير) 2001م، لدى بحث قضية تنحية الرئيس الفلبيني جوزيف إسترادا؛ حيث صوَّت الموالون له في الكونغرس الفلبيني لصالح تجاهل أدلة ضده، وفي أقل من ساعتين وزعت رسائل نصية تقول: "اذهب إلى «إسدا» ارتدِ الأسود"، وقد جرى إرسال سبعة ملايين رسالة نصية، وبحلول 20 (يناير) نحِّي إسترادا عن الحكم، وشكلت تلك الحادثة أول سابقة تتمكن فيها وسائل الإعلام الاجتماعي من المساعدة على إجبار زعيم دولة على ترك الحكم، وألقى إسترادا نفسُه اللومَ على الرسائل النصية.
وفي إسبانيا عام 2004م، أفضت المظاهرات التي نُظِّمت بواسطة الرسائل النصية إلى إسقاط رئيس الوزراء الإسباني خوسيه ماريا أزنار، ونُظِّمَت احتجاجات ضد قوانين التعليم في تشيلي في عام 2006م، واحتجاجات اللحم المعلب في كوريا الجنوبية في عام 2008م، وفقد الحزب الشيوعي السلطة في مولدوفا في عام 2009م عندما انفجرت المظاهرات بعد انتخابات مزورة بشكل واضح، واستُخدمَت وسائل الإعلام الجديد في كثير من حركات الاحتجاج بما فيها ضد الحراس السيخ في الهند في عام 2009م، وخلال انتفاضة «الحركة الخضراء» في إيران في (يوليو) 2009م استخدم الناشطون كل وسيلة تنسيق تقنية ممكنة من أجل الاحتجاج على إساءة إحصاء الأصوات التي أيدت حسين موسوي، لكنه جرى إجبارهم على الركوع في النهاية بسبب القمع العنيف، وفي تايلند اتبعت حركة «القميص الأحمر» في عام 2010م مساراً مشابهاً؛ حيث سيطر المحتجون على وسط مدينة بانكوك وفرقت الحكومة التايلندية المتظاهرين وقتلت عشرات منهم.
إن تنظيم الاحتجاجات بواسطة الرسائل النصية والـ «فيس بوك» و «التويتر»، وغيرها من مواقع التواصل الاجتماعي يأتي خطوة من المشاركين من أجل إحداث التغيير الاجتماعي من خلال نشاطات قليلة الكلفة؛ حيث يعكف مستخدِم وسائل الإعلام الاجتماعي على استخدامها وسيلة لتنسيق الفعل؛ ونتيجة لذلك عرَّضت كل تلك الاحتجاجات المشاركين فيها لخطر التهديد بالعنف، وفي بعض الحالات لاستخدامه الفعلي ضدهم.
وفي حقيقة الأمر، يبقى استخدام تلك الأدوات طريقة لتنسيق وتوثيق الفعل في العالم؛ بحيث يرجَّح كثيراً أن يكون جزءاً من عمل الحركات السياسية في المستقبل.
من يصنع التغيير:
إن السؤال الذي يجب الإجابة عنه بعد تكرار المشهد التونسي في مصر وتوسع (أطلس الانتفاضات الشعبية العربية) هو: هل تلعب وسائل الإعلام، دوراً داعماً في التغيير الاجتماعي عن طريق تقوية المجال الجماهيري؟
لقد أسهمت مواقع التواصل الاجتماعي في تأصيل الثورة في تونس ومصر؛ فالجماعات المنضبطة والمنسقة تمتلك ميزة على الجماعات غير المنضبطة؛ فهي تمتلك وقتاً للانخراط في الفعل الجمعي، ولها طريقة في توجيه سلوك أفرادها، والإعلام الجديد هو جزء من الواقع الجديد الذي يجري فيه العمل السياسي؛ ولكن لو جلس الجميع صباح مساء على مواقع التواصل الاجتماعي بدون وجود مسببات لما قامت أي من الثورات؛ فالإعلام لا يغير وحدَه عقول الناس؛ حتى وإن بث الآراء، بل يجـب لهذه الآراء أن تُتدَاول في وسط الجمهور، وفي الخطوة الثانية يتم تشكيل الآراء. وهذه هي الخطوة التي يستطيع بها الإنترنت بشكل عام، والإعلام الاجتماعي بشكل خاص أن يُحدِثوا فرقاً.
وكما كان حال الصحافة المطبوعة، فإن الإنترنت لا يقوم فقط بنشر الاستهلاك الإعلامي؛ وإنما يقوم بإنتاج الإعلام فهو يسمح للناس بأن يناقشوا على المستويين الخاص والعام طيفاً من القضايا المتعارضة.
لهذا أصبح من الممكن للجماعات أن تطبق نوعاً من السلوك المنسِّق للاحتجاج وإنشاء حملات جماهيرية تتطور ببطء؛ حيث يعتمد الرأي العام على الإعلام والحوار معاً، وفي الحالة التونسية والمصرية قامت الثقافة الشعبية بدورها في مفاقمة النزعة المحافظة عن طريق تقديم غطاء لاستخدمات سياسية أكثر لوسائل الإعلام الاجتماعي؛ ولهذا يصبح من الأكثر منطقية أن يحصل الاستثمار في وسائل الإعلام الاجتماعي باعتبارها أدوات عامة للتوجيه وطرح الآراء، أكثر من كونها أدوات سياسية، مع التأكيد على أنه ليست كل حركة سياسية تستخدم هذه الأدوات سوف تنجح طالما أن الدولة لم تفقد قدرتها على الرد، وأبسطها المنع بالمطلق أو الحجب الجزئي أو المراقبة والإشراف، والطريقة الأكثر أهمية لمستخدمي الإعلام الاجتماعي هي المتعلقة بالكيفية التي تستطيع فيها تلك الأدوات تقوية الشعور العام ومؤسسات المجتمع.
وبعد: فإن استخدام أدوات الإعلام لا يفضي بالضرورة إلى نتيجة واحدة؛ فربما لا تسبب ضرراً على المدى القصير، وربما تفيد على المدى البعيد، ولكن يبقى القول: إن الإعلام الجديد وما يحتويه من شبكات اجتماعية سيصنع فارقاً كبيراً في صناعة الإعلام في المستقبل من خلال سرعة نشر الأخبار ومصداقيتها المدعمة بالصوت والصورة، وزيادة مستوى الوعي ورفع مستوى المعرفة؛ لذلك فالثورة في كلٍّ من تونس ومصر نستطيع أن نطلق عليها ثورة الـ (فيس بوك، والتويتر، وملايين المدونات الشبابية)، ومع نجاح الثورة في إدارة الحالة المصرية والتونسية إلا أن دور الإعلام الفضائي هو الأكثر شمولية من الإعلام الاجتماعي الذي يمكن أن يطلَق عليه إعلام اللحظة الراهنة التي تنقل الصورة والصوت (الحدث) ويبقى دور الفضائيات عموماً أقوى في التأطير بسبب مصداقيتها وكونها جماهيرية تستعين بالخبراء.
_____________
من مقال للكاتب ياسر النير بـ (بتصرف)
- التصنيف:
الإعلام