كان عبد الله بن الزِّبَعْرَى السهمي ـ قبل إسلامه ـ شاعرا و خصمًا عنيدًا للإسلام، ومن أشد خصوم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والمسلمين بيده ولسانه، فكان يهجو المسلمين بشِعره، ويحرّض الكفار عليهم، ويُدافع عن قريش .
ولما فُتِحَت مكة فرَّ إلى نجران هو وهبيرة بن أبي وهب المخزومي، فلحقته أشعار حسان بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ فراح يعيره بالجبن والفرار فقال له :
لا تعْدَمْنَ رجلاً أحلك بغضه نجران من عيش أحذَّ لئيم
أي فليبق الله لنا محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي أحللك بغضه ديار نجران، وليدم الله عليك ـ ابن الزبعرى ـ عيشا ذليلا مهينا أشأم .
ثم راح حسان ـ رضي الله عنه ـ يستنزل غضب الله ومقته على ابن الزبعرى وولده فيقول :
غضب الإله على الزبعرى وابنه وعذاب سوء في الحياة مقيم
فتطايرت تلك الأبيات ووصلت إلى ابن الزبعرى، فقام وفكر في أمره، وأراد الله به الخير، فعزم على الدخول في الإسلام، ثم توجه إلى مكة وقصد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأعلن إسلامه، وطلب من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يستغفر له كل عداوة له وللإسلام .
قال الواقدي : " فلما جاء ابنَ الزبعرى شعرُ حسان تهيأ للخروج، فقال هبيرة بن أبي وهب: أين تريد يا ابن عم ؟، قال : أردتُ والله محمدا، قال أتريد أن تتبعه ؟! ، قال إي والله، قال: يقول هبيرة: يا ليت أني رافقت غيرك، والله ما ظننت أنك تتبع محمدا أبدا، قال ابن الزبعرى: هو ذاك فعلى أي شيء نقيم مع ابن الحارث بن كعب وأترك ابن عمي وخير الناس وأبرهم، ومع قومي وداري ..
فانحدر ابن الزبعرى حتى جاء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو جالس في أصحابه، فلما نظر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إليه قال: ( هذا ابن الزبعرى ومعه وجه فيه نور الإسلام )، فلما وقف على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: السلام عليكم ـ أي رسول الله ـ، شهدتُ أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله، والحمد لله الذي هداني للإسلام، لقد عاديتك وأجلبتُ عليك، وركبتُ الفرس والبعير، ومشيت على قدمي في عداوتك، ثم هربت منك إلى نجران، وأنا أريد ألا أقرب الإسلام أبدا ، ثم أراد بي الله ـ عز وجل ـ منه بخير، فألقاه في قلبي، وحببه إليَّ ، وذكرت ما كنت فيه من الضلالة واتباع ما لا ينفع ذا عقل من حجر يُعبد ويُذبح له لا يدري من عبده ومن لا يعبده .. قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( الحمد لله الذي هداك للإسلام إن الإسلام يجب ما كان قبله ) .
وقد أجمع الرواة أن ابن الزبعرى - رضي الله عنه - قال بعد إسلامه شعرًا كثيرًا حسنًا يعتذر فيه إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وهذا من نوع تصحيح الإنسان لأخطائه قبل إسلامه أو قبل توبته .
قال ابن عبد البر: " وله - ابن الزبعرى - في مدح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أشعار كثيرة، ينسخ بها ما قد مضى من شعره في كفره " .
وكذا قال ابن حجر في الإصابة: " ثم أسلم ومدح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأمر له بحُلة ".
وقال القرطبي : " وأما عبد الله بن الزبعرى فإنه أسلم عام الفتح وحسن إسلامه، واعتذر إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقبل عذره، وكان شاعرا مجيدا، فقال يمدح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وله في مدحه أشعار كثيرة ينسخ بها ما قد مضى في كفره " .
وقال ابن كثير : " كان عبد الله بن الزبعري السهمي من أكبر أعداء الإسلام، و من الشعراء الذين استعملوا قواهم في هجاء المسلمين، ثم منَّ الله عليه بالتوبة و الإنابة و الرجوع إلى الإسلام، و القيام بنصره والذب عنه " .
ومن القصائد الرائعة التي قالها معتذرا للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، مادحا له بعلامات النبوة التي أعطاها إياه ربه عز وجل، ومعترفاً بنبوته ، مؤمنا بصدق ما جاء به :
إنّي لَمُعْتَذِرٌ إلَيْك مِنْ الّذِي أَسْدَيْت إذْ أَنَا فِي الضّلَالِ أَهِيمُ
أَيّامَ تَأْمُرُنِي بِأَغْوَى خُطّةٍ سَهْمٌ وَتَأْمُرُنِي بِهَا مَخْزُومُ
وَأَمُدّ أَسْبَابَ الرّدَى وَيَقُودُنِي أَمْرُ الْغُوَاةِ وَأَمْرُهُمْ مَشْئُومُ
فَالْيَوْمَ آمَنَ بِالنّبِيّ مُحَمّدٍ قَلْبِي وَمُخْطِئُ هَذِهِ مَحْرُومُ
مَضَتْ الْعَدَاوَةُ وَانْقَضَتْ أَسْبَابُهَا وَدَعَتْ أَوَاصِرُ بَيْنَنَا وَحُلُومُ
فَاغْفِرْ فِدًى لَك وَالِدِيّ كِلَاهُمَا زَلَلِي، فَإِنّك رَاحِمٌ مَرْحُومُ
وَعَلَيْك مِنْ عِلْمِ الْمَلِيكِ عَلَامَةُ نُورٍ أَغَرّ وَخَاتَمٌ مَخْتُومُ
أَعْطَاك بَعْدَ مَحَبّةٍ بُرْهَانَهُ شَرَفًا وَبُرْهَانُ الْإِلَهِ عَظِيمُ
وَلَقَدْ شَهِدْت بِأَنّ دِينَك صَادِقٌ حَقّ وَأَنّك فِي الْعِبَادِ جَسِيمُ
وَاَللهُ يَشْهَدُ أَنّ أَحْمَدَ مُصْطَفًى مُسْتَقْبَلٌ فِي الصّالِحِينَ كَرِيمُ