تتملك الدهشة كلاًّ مِنَّا حينما يقرأ في تاريخ مؤسسة القضاء الإسلامية، وإسهاماتها الواضحة في مسيرة الحضارات الإنسانية كلها؛ لقد أتت هذه المؤسسة بكمٍّ هائل من التنظيم والدقة والإبهار، لم تعرفه أي مؤسسة قضائية كانت قبل الإسلام، أو حتى بعد الإسلام إلا منذ عهد قريب جدًّا، ولا ريب في ذلك؛ فقد استقت هذه المؤسسة أحكامها وتشريعاتها من الشريعة الإسلامية الغرَّاء، التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، فكانت تطبيقات هذه المؤسسة عبر مئات السنين تراثًا حضاريًّا زاخرًا، استفادت منه الأمم الغربية في واقعها، فتقدَّمت وعَلَتْ، وتمسكنا نحن ببعضه، فأصبحنا تابعين بعدما كنا أصحاب المكانة والمقدمة.
إن أهم ما تميزت به الحضارة الإسلامية على غيرها من الحضارات الأخرى، أنها جاءت بمجموعة من الأنظمة القائمة على قيم تستمدُّ تعاليمها من رب العالمين، فلا تتغير ولا تتبدل ولا تخضع للأهواء؛ لذلك فإن البشرية قبل وجود الحضارة الإسلامية لم تعش في هذه الحالة من الصفاء النفسي والروحي، التي أضفتها الحضارة الإسلامية على العالم؛ ولذلك كانت هذه القيم بمنزلة الإطار الجذاب الذي انبهرت به الإنسانية، من خلال رؤيتها للتطبيق الفعلي لحضارتنا العريقة.
مميزات القضاء في الإسلام:
وأكثر ما تميزت به المؤسسة القضائية الإسلامية أنها جعلت العدل غايتها في التعامل مع كل من يقف أمام مؤسساتها، ولكن لم تكن مؤسسة القضاء وحدها التي تمتعت بهذا المبدأ، بقدر ما تمتعت به الأمة الإسلامية كلها؛ إذ كان الحرص على العدل وتطبيقه، مبدأً أساسًا في بناء الحضارة الإسلامية.
وقد استقى المسلمون هذه القيمة العظيمة من خلال الوحي الرباني الكريم، من مصدريه: القرآن الكريم و السنة النبوية المطهرة ؛ ولذلك فقد روى أبو ذر عن النبي فيما روى عن الله I في الحديث القدسي أنه قال: "يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْـمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلاَ تَظَالـَمُوا"( رواه مسلم) ومن هنا أدرك المسلمون قيمة العدل، ووجوب تطبيقها فيما بينهم.
ولم يكن تطبيق العدل فيما بين المسلمين وبعضهم فقط، بل أمرنا الله Iبضرورة التعامل بالعدل مع من نكرههم ونبغضهم، وهو ما كان جديدًا في ساحة التعامل العالمي، ومن ثَمَّ قال تعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون} [المائدة: 8].
بل أكد الإسلام على ضرورة التعامل بالقسط مع غير المسلمين، وحذَّر من انتقاصه حقه، أو ظلمه لضعفه، أو خيانته، فقال النبي : "مَنْ ظَلَمَ مُعَاهَدًا، أَوِ انْتَقَصَهُ حَقًّا، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ؛ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"(أبو داود).
ولذلك حمَّل الإسلام الجماعة المسلمة مسئولية تحقيق العدل فيما بينهم، أو مع غيرهم، وقد آجرهم على ذلك، وهو ما يُخبر به النبي بقوله: "تَعْدِلُ بَيْنَ الاِثْنَيْنِ صَدَقَةٌ" ( البخاري).
بل الأكثر من ذلك، فقد حذَّر الإسلام المتخاصمين بعدم تزييف الحقائق، والإتيان بالحجج والأدلة التي تؤيد له وجهة نظره، وتُعينه على أخذ حق غير حقه، ولا شكَّ أن هذه التربية الإسلامية القويمة، هي مما تجعل ضمير المسلم يقظًا ضد كل شرٍّ، حذرًا من كل تدليس أو تغيير للحق؛ ولذلك قال النبي : "إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْـحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلاَ يَأْخُذْ؛ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ" (البخاري).
ومن هنا، نُدرك أن الحضارة الإسلامية، إنما جاءت بالأخلاق والقيم، ورسَّخت مبدأ العدل الإلهي بين البشر في تعاملاتهم، فلا خوف من هذه الحضارة؛ إذ إنها لا تفرق بين المتخاصمين على أساس الجنس أو اللون أو الدين، ولا شك أن هذا الأمر ليقطع لدينا أي شكٍّ، ويدحض لدينا كل شُبهة قيلت أو تُقال في حق هذه الحضارة العريقة.
- الكاتب:
د. راغب السرجاني - التصنيف:
تاريخ و حضارة