كان عدي بن حاتم نصرانيا ، وهو ابن حاتم الطائي المشهور بالكرم ، وكان شريفا في قومه ، فلما سمع برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كره دعوته ، وترك قومه ولحق بنصارى الشام ، فكره مكانه الجديد أكثر من كراهته لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقال في نفسه : لو أتيته فإن كان ملِكا أو كاذبا لم يَخْف عليَّ .
ويحدثنا أبو عبيدة بن حذيفة ـ رضي الله عنه ـ عن قصة إسلام عدي بن حاتم ـ رضي الله عنه ـ فيقول : ( كنت أسأل عن حديث عدي بن حاتم وهو إلى جنبي لا آتيه فأسأله ، فأتيته فسألته فقال : بُعِث رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ حيث بعث فكرهته أكثر ما كرهت شيئا قط ، فانطلقت حتى كنت في أقصى الأرض مما يلي الروم ، فقلت : لو أتيت هذا الرجل فإن كان كاذبا لم يخف عليَّ ، وإن كان صادقا اتبعته . فأقبلت فلما قدمت المدينة استشرف لي الناس وقالوا : جاء عدي بن حاتم ، جاء عدي بن حاتم ، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لي : يا عدي بن حاتم أسلم تسلم ، قال : قلت : إن لي دينا ، قال: أنا أعلم بدينك منك - مرتين أو ثلاثا - ألست ترأس قومك ؟ ، قال : قلت : بلى ، قال : ألست تأكل المِرْبَاع (ربع غنائم الحرب) ، قال : قلت : بلى ، قال : فإن ذلك لا يحل لك في دينك ، قال : فتضعضعت لذلك ، ثم قال : يا عدي بن حاتم أسلم تسلم ، فإني قد أظن - أو قد أرى أو كما قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم - أنه ما يمنعك أن تسلم خصاصة (حاجة وفقر) تراها من حولي ، وتوشك الظعينة (المرأة على البعير في الهودج) أن ترحل من الحيرة بغير جوار حتى تطوف بالبيت ، ولتفتحن علينا كنوز كسرى بن هرمز ، وليفيضن المال - أو ليفيض - حتى يهم الرجل من يقبل منه ماله صدقة .
قال عدي بن حاتم : فقد رأيت الظعينة ترحل من الحيرة بغير جوار حتى تطوف بالبيت ، وكنت في أول خيل أغارت على المدائن على كنوز كسرى بن هرمز ، وأحلف بالله لتجيئن الثالثة ، إنه لقول رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ لي ) رواه ابن حبان .
وفي السيرة النبوية لابن هشام يقول عدي : " فخرجت حتى أقدم على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المدينة ، فدخلت عليه ، وهو في مسجده ، فسلمت عليه ، فقال : من الرجل ؟ ، فقلت : عدي بن حاتم ، فقام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فانطلق بي إلى بيته ، فوالله إنه لعامد بي إليه ، إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة ، فاستوقفته ، فوقف لها طويلا تكلمه في حاجتها ، قال : قلت في نفسي : والله ما هذا بملك ، قال: ثم مضى بي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى إذا دخل بي بيته تناول وسادة من أدم (جلد) محشوة ليفا فقذفها إليَّ ، فقال : اجلس على هذه ، قال : قلت : بل أنت فاجلس عليها ، فقال : بل أنت ، فجلست عليها ، وجلس رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم بالأرض ، قال : قلت في نفسي : والله ما هذا بأمر ملك " .
لقد أظهرت قصة إسلام عدي بن حاتم ـ رضي الله عنه ـ خلقا من أخلاق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو التواضع ، والذي كان من أسباب إسلام عدي ـ رضي الله عنه ـ ، فحينما أقبل عدي على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يحمل في تصوره أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحد رجلين إما نبي أو ملِك ، فلما رأى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ توقفه امرأة كبيرة ضعيفة مدة طويلة ، تكلمه في حاجة لها ، قال عدي في نفسه : " والله ما هذا بملك " ، ثم رأى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يجلس أمامه على الأرض ، وبيته ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا ينطق بشيء من مظاهر الملك والغنى ، حينئذ شعر عدي بخلق التواضع عند النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فانسلخ من ذهنه عامل الملك ، واستقر في تصوره عامل النبوة ، وهذا درس لكل من يدعو إلى الله أن يتصف ويتحلى بخلق التواضع .
فالتواضع ، وخفض الجناح ، ولين الجانب ، كانت أوصافا له ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، تخلَّق بها مع الكبير والصغير ، والقريب والبعيد ، ولا يملك من يقرأ سيرته ، ويطلع على أخلاقه إلا أن يمتلئ قلبه بمحبته ، فالناس مفطورون على محبة المتواضعين وبغض المتكبرين ، وأخبار تواضعه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كثيرة، وسيرته العطرة مليئة بها ، وما حفظ عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه تكبر على أحد ، أو فاخر بنفسه أو مكانته.
كذلك أظهر إسلام عدي ـ رضي الله عنه ـ حكمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، حيث بين له ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه على علم بدينه ـ الباطل ـ الذي كان يعتنقه ، وبمخالفته له ، ومن ثم حصل لعدي اليقين بنبوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي يعلم من دينه ما لا يعلمه الناس من حوله . ولما ظهر للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن عدياً قد أيقن بنبوته تحدث عن العوائق التي تحول بين بعض الناس واتباع الحق ـ حتى مع معرفتهم بأنه حق ـ ، ومنها ضعف المسلمين وعدم اتساع دولتهم ، وما هم فيه من الفقر ، فطمأنه النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن الأمن سيشمل البلاد حتى تخرج المرأة من العراق إلى مكة من غير أن تحتاج إلى حماية أحد ، وأن دولة الفرس ستقع تحت سلطان المسلمين ، وأن المال سيفيض حتى لا يقبله أحد، فلما زالت عن عدي هذه المعوقات أسلم .
لقد كان النبي- صلى الله عليه وسلم - حكيما في دعوته ، خبيراً بأدواء النفوس ودوائها ، فكان يدعو كل إنسان بما يلائم علمه وفكره ومشاعره ، ومن ثم وجد عدي سمات النبوة في الحكمة الباهرة في حديثه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما وجدها في تواضعه .
وكما وجد عدي بن حاتم ـ رضي الله عنه ـ سمات النبوة الصادقة في مظهر معيشته - صلى الله عليه وسلم ـ، وتواضعه وحديثه وحكمته ، وجد مصداق ذلك كله فيما بعد ، في وقائع الزمن والتاريخ ، فكان ذلك سببا في زيادة يقينه ، فقد تحقق أمام عينيه ما بشره به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أمور غيبية حدثت بعد وفاته في المستقبل ، وهذه إحدى معجزاته ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
قال عدي بن حاتم : " فقد رأيت الظعينة ترحل من الحيرة بغير جوار حتى تطوف بالبيت ، وكنت في أول خيل أغارت على المدائن على كنوز كسرى بن هرمز ، وأحلف بالله لتجيئن الثالثة ، إنه لقول رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ لي " .
قال البيهقي : قد وقعت الثالثة في زمن عمر بن عبد العزيز ، ثم أخرج عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب قال : إنما ولِيَ عمر بن عبد العزيز سنتين ونصفاً ، والله ما مات عمر بن عبد العزيز حتى جعل الرجل يأتينا بالمال العظيم فيقول : اجعلوا هذا حيث ترون في الفقراء ، فما يبرح حتى يرجع بماله ، نتذكر من يضعه فيهم فلا نجد فيرجع بماله ." .
إن قصة إسلام عدي بن حاتم ـ رضي الله عنه ـ دليل من دلائل نبوته ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وتجسيد واضح لتواضع وحكمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، والتي ينبغي أن يقتدي بهما المسلم في حياته ودعوته .