أدت هجرة المسلمين إلى المدينة المنورة إلى زيادة الأعباء الملقاة على عاتق الدولة الناشئة، فشرع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لحل هذه الأزمة بطرق عديدة، وأساليب متنوعة، فكان نظام المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وبناء الصُفَّة التابعة للمسجد النبوي لاستيعاب أكبر عدد ممكن من فقراء المهاجرين .. وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يبني المجتمع المسلم الجديد في المدينة حتى يكون مؤهلا لحمل الأمانة وتبليغ الرسالة، مع أخذه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بسنة التدرج في البناء، ومراعاته لواقع الناس، والانتقال بهم نحو الأفضل دون تعجيل، بل كل شيء في وقته، ومن ثم ففي السنة الثانية من الهجرة حدثت بعض التشريعات الهامة منها : تحويل القِبلة، وفرض صيام رمضان، وزكاة الفطر، وبينت أنصبة الزكاة الأخرى ..
تحويل القِبلة :
تميّز المجتمع المسلم في المدينة المنورة عن غيره من مجتمعات الجاهلية ـ كاليهود ومشركي العرب والنصارى وغيرهم ـ، وقد زاده الله تميّزاً بأن نزل الوحي على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في السنة الثانية من الهجرة بصرف المسلمين عن القبلة التي كان يشاركهم فيها اليهود وهي بيت المقدس، إلى قبلة الإسلام خاصة وهي الكعبة المشرفة ..
عن البراء بن عازب ـ رضي الله عنه ـ قال : (.. أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أول ما قدم المدينة نزل على أجداده - أو قال أخواله - من الأنصار، وأنه - صلى الله عليه وسلم - صلى قِبَل بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، وكان يعجبه أن تكون قبلته قِبل البيت، وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن صلى معه فمر على أهل مسجد وهم راكعون، فقال: أشهد بالله، لقد صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قِبل مكة، فداروا كما هم قِبل البيت، وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلي قبل بيت المقدس وأهل الكتاب، فلما ولى وجهه قبل البيت أنكروا ذلك )(الحاكم).
قال ابن القيم : " وكان لله في جعل القبلة إلى بيت المقدس، ثم تحويلها إلى الكعبة حِكم عظيمة، ومحنة للمسلمين والمشركين واليهود والمنافقين ..
فأما المسلمون، فقالوا: سمعنا وأطعنا وقالوا : { آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا }(آل عمران: من الآية7) وهم الذين هدى الله، ولم تكن كبيرة عليهم .
وأما المشركون، فقالوا : كما رجع إلى قبلتنا يوشك أن يرجع إلى ديننا ، وما رجع إليها إلا أنه الحق .
وأما اليهود ، فقالوا : خالف قبلة الأنبياء قبله ، ولو كان نبيا ، لكان يصلى إلى قِبلة الأنبياء .
وأما المنافقون، فقالوا : ما يدرى محمد أين يتوجه إن كانت الأولى حقا ، فقد تركها ، وإن كانت الثانية هي الحق ، فقد كان على باطل ..
وكثرت أقاويل السفهاء من الناس، وكانت كما قال الله تعالى : { وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ }(البقرة: من الآية143) ، وكانت محنة من الله امتحن بها عباده ، ليرى من يتبع الرسول منهم ممن ينقلب على عقبيه .. " ..
وكان لحادثة تحويل القبلة أبعاداً كثيرة : منها السياسي، ومنها العسكري، ومنها الديني، ومنها التاريخي .. فبُعْدها السياسي أنها جعلت الجزيرة العربية محور الأحداث، وبعدها التاريخي أنها ربطت هذا العالم بالإرث العربي لإبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ، وبعدها العسكري أنها مهدت لفتح مكة، وبعدها الديني أنّها ربطت القلوب بالحنيفية، وميزت الأمة الإسلامية عن غيرها .. ومن ثم كان تحويل القبلة الذي حدث في السنة الثانية من الهجرة نعمة من نعم الله علينا، كما قال الله تعالى: { وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }(البقرة: من الآية150) ..
الصيام :
فُرِض الصيام ـ مثل بقية الشرائع الإسلامية - في المدينة بعد الهجرة، فقد كان العهد المكي عهد تأسيس العقائد وترسيخ أصول التوحيد، والقيم الإيمانية والأخلاقية .. أما بعد الهجرة فقد شرعت الفرائض، وحددت الحدود، وفصلت الأحكام، وكان منها الصيام ..
ففي شهر شعبان من السنة الثانية للهجرة فرض الله تعالى الصيام، وجعله ركنا من أركان الإسلام، كما فرضه على الأمم السابقة، وفي ذلك تأكيد على أهمية هذه العبادة الجليلة ومكانتها . قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }(البقرة:183) . وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل ذلك يصوم ثلاثة أيام من كل شهر ..
يقول ابن القيم في زاد المعاد : " .. وقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( الصوم جُنَّة (وقاية))(أحمد).. وأمر من اشتدت عليه شهوة النكاح ولا قدرة له عليه بالصيام، وجعله وِجَاء هذه الشهوة .. والمقصود : أن مصالح الصوم لما كانت مشهودة بالعقول السليمة، والفطر المستقيمة، شرعه الله لعباده رحمة بهم، وإحسانا إليهم، وحمية لهم وجنة ..
وكان هدى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيه أكمل الهدى، وأعظم تحصيل للمقصود، وأسهله على النفوس .. ولما كان فطم النفوس عن مألوفاتها وشهواتها من أشق الأمور وأصعبها، تأخر فرضه إلى وسط الإسلام بعد الهجرة، لما توطنت النفوس على التوحيد والصلاة، وألفت أوامر القرآن، فنُقِلت إليه بالتدريج .. وكان فرضه في السنة الثانية من الهجرة، فتُوفى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد صام تسع رمضانات .. " ..
زكاة الفطر :
وفي رمضان من نفس العام ـ الثاني من الهجرة ـ شرع الله زكاة الفطر، وهي على كل حر أو عبد، وذكر أو أنثى، وصغير أو كبير من المسلمين، والحكمة من فرضية هذه الزكاة وإلزام المسلمين بها ظاهرة في قول عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : " فرض رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات " ( أبو داود) ..
الزكاة :
الزكاة ركن من أركان الإسلام، فعن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان )(البخاري) .. ومن حكمتها إبداء مسئولية الأغنياء عن الفقراء فيما استخلفهم الله تعالى فيه من المال، وإيجاد الترابط بين أفراد المجتمع، وحصول الألفة بينهم ..
وكان تشريع الزكاة بعد شهر رمضان من السنة الثانية من هجرة الحبيب ـ صلى الله عليه وسلم ـ .. فعن قيس بن سعد بن عبادة ـ رضي الله عنه ـ قال : ( أمرنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة ، ثم نزلت فريضة الزكاة ، فلم يأمرنا ولم ينهنا ونحن نفعله )(ابن ماجه) .
صلاة العيد :
وفي شهر شوال من هذه السنة أيضاً صلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلاة العيد، وخرج بالناس إلى المُصَّلى يهللون الله، ويكبرونه، ويعظمونه شكرا لله على ما أفاء عليهم من النعم المتتالية، وكانت تلك أول صلاة عيد للمسلمين ، إثر الفتح المبين الذي حصل لهم في غزوة بدر .. فما أروع هذا العيد الذي جاء به الله بعد أن تَوَّجَ هامتهم بتاج الفتح والعز، وما أروق منظر تلك الصلاة التي صلوها وقد خرجوا من بيوتهم يرفعون أصواتهم بالتكبير والتوحيد والتحميد، بعد ما أولاهم به من النعم، وأيدهم به من النصر، وقد ذكرهم الله ـ عز وجل ـ بذلك قائلا : { وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }(الأنفال:26) ..