أدى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الأمانة وبلغ الرسالة وجاهد في سبيل الله، لنشر الإسلام في أرجاء الجزيرة العربية وغيرها .. فليست الأمة الإسلامية جمعا من الناس تعيش بلا غاية، كلا، فالمسلمون أصحاب عقيدة تحدد صلتهم بالله، وتوجه سيرهم في الحياة، وتنظم شئونهم في الداخل والخارج، وفي السلم والحرب ..
فغزا ـ صلى الله عليه وسلم ـ تسع عشرة غزوة، ومن هذه الغزوات الهامة غزوة خيبر التي كان فيها عز ونصر المؤمنين، وذل وهوان اليهود، الذين عاندوا واستكبروا عن قبول دعوة الحق والدخول في دين الإسلام، وغدروا وخانوا ـ كعادتهم ـ، وكانت قلوبهم وصدورهم مليئة بأحقادهم ضد الإسلام والمسلمين منذ عهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإلى أيامنا هذه .
لم يُظهر يهود خيبر العداء للمسلمين حتى نزل فيهم زعماء بني النضير ـ من اليهود ـ، الذي أثر في نفوسهم إجلاؤهم عن ديارهم، ولم يكن الإجلاء كافياً لكسر شوكتهم، فقد غادروا المدينة ومعهم النساء والأبناء والأموال ، وكان من أبرز زعماء بني النضير الذين نزلوا في خيبر سلاَّم بن أبي الحقيق وكنانة بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب، فلما نزلوا بخيبر دان لهم أهلها، وكان تزَّعُم هؤلاء ليهود خيبر كافياً في جرهم إلى الصراع مع المسلمين، فقد كان يدفعهم حقد دفين ورغبة قوية في العودة إلى ديارهم داخل المدينة ..
وقد تفرغ المسلمون بعد صلح الحديبية لتصفية خطر يهود خيبر الذي أصبح يهدد أمن المسلمين، ولقد تضمنت سورة الفتح التي نزلت بعد الحديبية وعداً إلهياً بفتح خيبر وحيازة أموالها غنيمة، قال الله تعالى: { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا . وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا . وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا . وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا } (سورة الفتح الآيات 18 : 21) .
سار الجيش الإسلامي إلى خيبر بروح إيمانية عالية على الرغم من علمهم بمنعة حصون خيبر، وشدة بأس رجالها وعتادها الحربي، وكانوا يكبرون ويهللون بأصوات مرتفعة، فطلب منهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يرفقوا بأنفسهم: قائلاً: ( أيها الناس تدعون سميعاً قريباً وهو معكم )( البخاري ).
وكان سيره - صلى الله عليه وسلم - بالجنود ليلاً، فقد قال سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه ـ : خرجنا مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى خيبر، فسرنا ليلا، فقال رجل من القوم، لعامر : يا عامر ألا تسمعنا من هنيهاتك، وكان عامر رجلا شاعرا، فنزل يحدو بالقوم، يقول :
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
فاغفر فداء لك ما اتقينا وثبت الأقدام إن لاقينا
وألقين سكينة علينا إنا إذا صيح بنا أبينا
وبالصياح عولوا علينا
فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( من هذا السائق؟ قالوا: عامر بن الأكوع ، قال: يرحمه الله ) ( البخاري )..
ولما أدرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الليل أمر الجيش بالنوم على مشارف خيبر، ثم استيقظوا مبكرين، وضربوا خيامهم ومعسكرهم بوادي الرجيع، وهو وادي يقع بين خيبر وغطفان، حتى يقطعوا المدد عن يهود خيبر من قبيلة غطفان وهذا من حكمته ـ صلى الله عليه وسلم ـ ..
عن أنس ـ رضي الله عنه ـ : ( أن النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ خرج إلى خيبر فجاءها ليلا، وكان إذا جاء قوما بليل لا يغير عليهم حتى يصبح، فلما أصبح خرجت يهود بمساحيهم ومكاتلهم(آلات زراعية)، فلما رأوه قالوا محمد والله، محمد والخميس(الجيش) . فقال النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ: الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين )( البخاري ) ..
هرب اليهود إلى حصونهم وحاصرهم المسلمون، وأخذوا في فتح حصونهم واحداً تلو الآخر، وكان أول ما سقط من حصونهم ناعم والصعب بمنطقة النطاة، وأبى النزار بمطقة الشق، وكانت هاتان المنطقتان في الشمال الشرقي من خيبر، ثم حصن القموص المنيع في منطقة الكتيبة، وهو حصن ابن أبي الحقيق، ثم أسقطوا حصني منطقة الوطيح والسلالم .
وقد واجه المسلمون مقاومة شديدة وصعوبة كبيرة عند فتح بعض هذه الحصون، منها حصن ناعم الذي استغرق فتحه عشرة أيام، واستشهد تحته محمود بن مسلمة الأنصاري، وقد حمل راية المسلمين عند حصاره أبو بكر الصديق ، ولم يفتح الله عليه، وعندما جهد الناس، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنه سيدفع اللواء غداً إلى رجل يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله، لا يرجع حتى يفتح له، فطابت نفوس المسلمين، فلما صلى فجر اليوم الثالث دعا علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ودفع إليه اللواء فحمله فتم فتح الحصن على يديه ..
وكان علي ـ رضي الله عنه ـ يشتكي من رمد في عينيه، فبصق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عينيه ودعا له فبرئ، وأوصاه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأن يدعو اليهود إلى الإسلام قبل أن يداهمهم، وقال له : ( فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن تكون لك حُمْر النَّعَم ) ( مسلم ). وعندما سأله علي : يا رسول الله على ماذا أقاتل الناس؟ قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإذا فعلوا ذلك منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ) ( مسلم ).
وعندما حاصر المسلمون هذا الحصن برز لهم أحد أبطالهم وهومرحب، وكان سبباً في استشهاد عامر بن الأكوع ، ثم بارزه علي ـ رضي الله عنه ـ فقتله، مما أثر سلبياً في معنويات اليهود ومن ثم هزيمتهم . ثم توجه المسلمون إلى حصن الصَّعْب بن مُعاذ بعد فتح حصن ناعم، وأبلى حامل رايتهم الحباب بن المنذر بلاء حسناً حتى افتتحوه بعد ثلاثة أيام، ووجدوا فيه الكثير من الطعام والمتاع، بعد أن كانوا في ضائقة من قلة الطعام، ثم توجهوا بعده إلى حصن قلعة الزبير الذي اجتمع فيه الفارون من حصن ناعم والصعب وبقية ما فُتِح من حصون يهود، فحاصروه وقطعوا عنه مجرى الماء الذي يغذيه، فاضطروهم إلى النزول للقتال، فهزموهم بعد ثلاثة أيام، وبذلك تمت السيطرة على آخر حصون منطقة النَّطاة التي كان فيها أشد اليهود ..
ثم توجه المسلمون إلى حصون منطقة الشِّق فاقتحموها واحدا تلو الآخر، وفر بعض من فيها، وتجمعوا في حصن القَمُوص المنيع وحصن الوطيح وحصن السُّلاَلم، فحاصرهم المسلمون لمدة أربعة عشر يوماً حتى طلبوا الصلح . وسارع أهل فدك في شمال خيبر إلى طلب الصلح وأن يحقن دماءهم، وبذلوا له الأموال فوافق على طلبهم .. وبذلك تساقطت سائر الحصون اليهودية أمام قوات المسلمين ..
لقد أظهرت غزوة خيبر حقيقة ثابتة وهي أن اليهود على مر التاريخ والعصور ومنذ عهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى يومنا هذا مصدر خطر داهم على الإسلام والمسلمين، فهم قوم خيانة وغدر، وينقضون العهود والمواثيق، وبحقدهم وكفرهم قتلوا عددا من الأنبياء، وما زالوا إلى أيامنا هذه مصدر خطر كبير وشر مستطير ينبغي التنبه له ومواجهته ..
ومن أهم ما ينبغي أن نعتبره ونستفيد منه من غزوة خيبر جبن اليهود وضعفهم، وأن النصر من عند الله، كما قال الله تعالى: { وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ }(آل عمران: من الآية126)، فخيبر عبارة عن أرض واسعة ذات واحات خصبة يكثر فيها النخيل، وتضم حصونا منيعة لليهود، مقسمة إلى ثلاث مناطق قتالية محصنة تحصينا شديدا ..
ومع كل هذه القوة الظاهرة فقد كان اليهود جبناء أثناء المعارك، لا يحاربون إلا من داخل حصونهم ومن وراء الجدران، وصدق الله تعالى حين وصفهم بقوله: { لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ } (الحشر:14)، وقد استشهد من المسلمين خلال فتح خيبر عشرون، في حين بلغ عدد قتلى اليهود ثلاثة وتسعين ـ مع قوة حصونهم ومقاتلتهم من خلفها ـ، في حين كان المسلمون يقاتلون في أرض مكشوفة بلا حواجز أو سواتر ..
ومما ينبغي أن يسترعي انتباهنا كذلك في غزوة خيبر ما حدث فيها من معجزات، أيد لله بها رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وشهدت بصدقه فيما جاء به، وأكدت حفظ الله له ..
وقد ظهر ذلك في تفل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في عين علي ـ رضي الله عنه ـ وقد كان يشتكي من رمد في عينيه فبرأت حتى كأنه لم يكن به وجع .. وكذلك في وحي الله إلى نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمر الشاة المسمومة التي أهدتها إليه اليهودية وأرادت قتله ..
فعن سهل بن سعد ـ رضي الله عنه ـ: ( أن رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ قال: لأعطين الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه . قال: فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها، فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ كلهم يرجو أن يُعطاها، فقال: أين علي بن أبي طالب ؟ فقالوا: يشتكي من عينيه يا رسول الله، قال: فأرسلوا إليه فأتوني به، فلما جاء بصق في عينيه ودعا له فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع .. ) ( البخاري )..
وذكر ابن هشام في سيرته: " أن زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم أهدت للنبي ـ صلى الله عليه وسلم شاة مصلية، وقد سألت أي عضو من الشاة أحب إليه فقيل لها الذراع فأكثرت فيه من السم، ثم سمت سائر الشاة ثم جاءت بها، فلما وضعتها بين يديه تناول الذراع فلاك منها مضغة فلم يسغها، ومعه بشر بن البراء بن معرور قد أخذ منها كما أخذ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فأما بشر فأساغها، وأما رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلفظها، ثم قال: إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم، ثم دعا بها فاعترفت، فقال: ما حملك على ذلك؟ قالت: بلغت من قومي ما لم يخف عليك، فقلت إن كان ملكا استرحت منه وإن كان نبيا فسيُخْبر.." ..
لقد أحدث فتح خيبر دويِّاً هائلاً في الجزيرة العربية بين مختلف القبائل، وقد أصيبت قريش بالغيظ إذ لم تكن تتوقع ذلك، وهي تعلم مدى حصانة قلاع يهود خيبر، وكثرة مقاتليهم ووفرة سلاحهم، أما القبائل العربية الأخرى المناصرة لقريش فقد أدهشها خبر هزيمة يهود خيبر وخذلها انتصار المسلمين الساحق، ولذلك فإنها جنحت إلى مسالمة المسلمين وموادعتهم بعد أن أدركت عدم جدوى استمرارها في عدائهم، مما فتح الباب واسعاً لنشر الإسلام في أرجاء الجزيرة العربية، بعد أن تعززت مكانة المسلمين في أعين أعدائهم إلى جانب ما تحقق لهم من خير وتعزيز لوضعهم الاقتصادي ..
تمر السنون والأعوام وتظل غزوات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عامة ومع اليهود خاصة نبراسا وهاديا يضيء لنا الطريق في تعاملنا مع أعداء الأمس واليوم والغد من اليهود وغيرهم ..