خرج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمحاربة الروم في رجب من العام التاسع الهجري، واشتهرت هذه الغزوة باسم غزوة تبوك نسبة إلى عين ماء يقال لها تبوك، وعرفت كذلك بغزوة العُسْرة، لصعوبة وشدة الظروف التي وقعت فيها، من شدة الحر، وقلة الماء، وبعد المكان، وقلة المال والدواب التي تحمل المجاهدين، وكثرة العدو وقوته . وقد قال الله تعالى عن هذه الغزوة: { لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ }(التوبة: من الآية117) ..
وعن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قال: " خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلاً وأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعتصر فرثه فيشربه "..
وقد استجاب للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رجال من المسلمين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فنفروا للجهاد مسرعين، يسيرون في الصحراء المترامية، بين الحر الشديد ووعورة الطريق، لا يكترثون بوعثاء السفر، ولا يثنيهم عن غايتهم ما يحيط بهم من المتاعب، بل يَجِّدون في طاعة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم ـ ..
وقد تخلف ثلاثة رجال من أصحابه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الخروج للجهاد معه، من غير عذر شرعي ولا نفاق، ولكن كسلا وتسويفاً، وهم: كعب بن مالك و مرارة بن الربيع وهلال بن أبي أمية .. ورغم فداحة الذنب وعظمته، تجاوز الله عنهم، وغفر لهم صنيعهم، لأنهم كانوا صادقين، ولم يخادعوا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ولم يأتوا بأعذار كاذبة، بل صدقوا واعترفوا بتخلفهم، ورجعوا إلى الله تائبين، فتاب الله عليهم .
وقد وردت هذه القصة في صحيحي البخاري ومسلم ، وملخصها كما جاء على لسان كعب بن مالك ـ رضي الله عنه ـ أحد وأبرز أصحابها :
" غزا النبي ـ صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة، حين طابت الثمار، فتجهز رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتجهز المسلمون معه ولم أتجهز، وأقول في نفسي سألحق بهم، حتى إذا خرجوا ظننت أني مدركهم، وليتني فعلت، فلما انفرط الأمر، أصبحت وحدي بالمدينة لا أرى إلا رجلاً مغموصاً(معروفا) عليه في النفاق، أو رجلاً ممن عذر الله من الضعفاء، فلما بلغني أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عاد راجعاً من تبوك حضرني الفزع، فجعلت أتذكر الكذب، وأقول: بماذا أخرج من سخط رسول الله؟، واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي . فلما دنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من المدينة، زال عني الباطل، وعلمت أني لن أخرج منه أبداً بشيء فيه كذب، فأجمعت(عزمت)صدقه ..
فلما وصل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للمدينة بدأ بالمسجد فصلى ركعتين وجلس للناس، فجاء المخلفون وجعلوا يعتذرون له ويحلفون، فيقبل منهم ظواهرهم ويستغفر لهم، وكانوا بضعاً وثمانين رجلاًَ، فجئت فسلمت عليه، فتبسم تبسم المغضب، فقال لي: ( ما خلفَّك؟ )، قلت: يا رسول الله، والله لو جلست إلى غيرك من أهل الدنيا لخرجت من سخطه بعذر، ولقد أُعْطيتُ جدلاً، والله ما كان لي عذر حين تخلفت عنك . فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك ) .
فخرجت من عنده فلحقني بعض أهلي يلوموني على أني لم أعتذر، ويستغفر لي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، حتى هممت أن أرجع عن صدقي، فسألت: هل قال أحد بمثل ما قلت؟ فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدراً : مرارة بن الربيع وهلال بن أبي أمية ، وكان فيهما لي أسوة .. ثم إن رسول الله نهى عن محادثتنا نحن الثلاثة، فاجتبنا الناس، وتغيروا لنا، فتنكرت لي نفسي والأرض، أما صاحبيّ فاستكانا وقعدا في بيتيهما، أما أنا فأُصلى مع المسلمين وأطوف الأسواق ولا يكلمني أحد حتى أقاربي .
قال كعب : و بينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نَبَطِيٌّ(فلاح) من أنباط أهل الشام، ممن قدم بطعام يبيعه بالمدينة، يقول: من يدلني على كعب بن مالك ؟ فطفق(أخذ) الناس يشيرون له، حتى إذا جاءني دفع إليَّ كتابا من ملك غسان في سَرَقَةٍ من حرير(قطعة من جيد الحرير)، فإذا فيه: قد بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك .. فقلت: وهذا أيضاً من البلاء، فتيممت بها التنور(أحرقتها) .
حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين، إذا رسول مِنْ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يأتيني فقال: إن رسول الله يأمرك أن تعتزل أهلك، وأرسل إلى صاحبيَّ مثل ذلك، فقلت: الحقي بأهلك .. فلبثت بعد ذلك عشر ليال، حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله عن كلامنا .. فبينما أنا جالس على الحال التي ذكر الله منا، سمعت صوت صارخ يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر، فخررت ساجداً، وعرفت أن قد جاء الفرج ..
فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبيَّ فكسوته إياهما ببشراه، والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلما سلمت عليه، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يبرق وجهه من السرور: ( أبشر بخير يوم مَرَّ عليك منذ ولدتك أمك )، فأنزل الله ـ عز وجل ـ : { لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ }(التوبة 117 : 119) .
قال كعب : فما أنعم الله عليَّ بنعمة بعد الإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يومئذ، والله ما أعلم أحداً ابتلاه الله بصدق الحديث بمثل ما ابتلاني " ..
علم كعب وهلال ومرارة ـ رضي الله عنهم ـ مما تربوا عليه من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خطورة الكذب، فعزموا على سلوك طريق الصراحة والصدق، وإن عرّضهم ذلك للتعب والبلاء، ومن ثم قال كعب ـ رضي الله عنه ـ : فلما قيل : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أظلَّ قادماً زاح عني الباطل، وعرفت أني لن أخرج منه أبداً بشيء فيه كذب، فأجمعت صدقه.. ومن ثم كان ذلك سبباً في قبول الله توبتهم، وما أجمل قول الله تعالى في ختم توبته على كعب ومن معه بقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } (سورة التوبة آية:119) ..
وفي قصة هؤلاء الثلاثة ـ رضي الله عنهم ـ ظهر تربص أعداء الإسلام بالمسلمين، إذ كان العدو الصليبي يراقب ويرصد المجتمع الإسلامي، فأراد ـ كعادته ـ أن يستغل الفرصة لكي يمزق الجبهة الداخلية ويشعل نار الفتنة بين المسلمين، ليوهن بنيان الدولة الإسلامية، فاستغل ملك غسان فرصة هجران المسلمين لكعب بن مالك ، فأرسل له سفيره برسالة خاصة، يغريه فيها، وكان رد كعب على هذه الرسالة قوله: وهذا أيضاً من البلاء .
وكما يدل هذا الموقف على تربص أعداء الإسلام بالمسلمين، فإنه يدل كذلك على شدة ولاء كعب لله ورسوله، وقوة إيمانه وعظمة نفسه، إذ رمى بكتاب ملك غسان في النار وأحرقه، ولم يلتفت لإغرائه، وخرج من محنته وهو أقوى ما يكون إيماناً وثباتاً على دينه ..
وقد تبين من خلال هذه القصة من السيرة مشروعية الهجر بسبب شرعي، فهو هجر تربوي له منافعه وأهدافه في تربية الفرد والمجتمع المسلم على الاستقامة، ومنع أفراده وتحذيرهم من التورط في المخالفات، إما بترك شيء من الواجبات، أو فعل شيء من المحرمات، لأن من علم أنه إذا وقع في شيء من ذلك سيهجر من جميع أفراد المجتمع، فإنه لا يفكر في الإقدام عليه، مع الأخذ في الاعتبار العلم بأن تطبيق هذا الهجر يجب أن يتم مع أمن الوقوع في الفتنة لمن يُطَبَق عليه ..
وهذا الهجر الشرعي يختلف عن الهجر الذي يكون بين المسلمين على أمور الدنيا، فهذا دنيوي وذاك ديني، فالهجر الديني ـ بضوابطه ـ مطلب شرعي يثاب عليه فاعله، وهو وسيلة تربوية، أما الهجر الدنيوي فإنه منهي عنه لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام )(مسلم)..
الفرحة بالتوبة وشكر الله عليها :
عندما نزلت الآيات الكريمة التي بينت توبة الله على هؤلاء الثلاثة، كان ذلك اليوم من الأيام العظيمة عند المسلمين، وظهرت الفرحة على وجوه الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ حتى صاروا يتلقون كعباً وصاحبيه يهنئونهم بما تفضل الله به عليهم من التوبة .
وجاء كعب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ووجهه يبرق من السرور فقال له ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك )، ومن شدة فرحه ـ رضي الله عنه ـ سجد لله شكراً، وأعطى ثوبيه اللذين لا يملك يومئذ غيرهما لمن بشره، ثم استعار ثوبين فلبسهما، وأراد أن ينخلع من ماله كله صدقة لله تعالى، لكن النبي ـ صلى الله عليه وسلم - لم يتقبل منه التصدق بجميع ماله، وقال له: ( أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك ) ..
وهذا يدل على عِظَم مقام التوبة، والفرح بها، والشكر عليها .. إذ التوبة تعني عودة العبد إلى الدخول تحت رضوان الله تعالى، وهو أعلى هدف ينشده المسلم في حياته ..
وكذلك كانت فرحة صاحبيه عظيمة غير أن كعباً ـ رضي الله عنه ـ لم يذكر في هذا الخبر إلا ما حدث معه، وقد جاء في رواية الواقدي : " وكان الذي بشر هلال بن أمية بتوبته سعيد بن زيد فسجد، قال سعيد : فما ظننته يرفع رأسه حتى تخرج نفسه .. " .
فدل ذلك على أن سجود الشكر لله عبادة مشروعة، فقد كان من عادة الصحابة - رضي الله عنهم - أن يسجدوا شكراً لله تعالى كلما تجددت لهم نعمة أو انصرفت عنهم نقمة، وقد تعلموا ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ .. فعن أبي بكرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( أنه كان إذا جاءه أمر سرور أو بشر به خر ساجداً شاكراً لله )(أبو داود) .
قال ابن القيم : " .. وقد سجد أبو بكر الصديق لما جاءه قتل مسيلمة الكذاب، وسجد علي بن أبي طالب لما وجد ذا السدية مقتولا في الخوارج، وسجد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حينما بشره جبريل أنه : مَنْ صلى عليه مرة صلى الله بها عليه عشرا .." .
إن في قصة هؤلاء الثلاثة الذين تخلفوا عن الجهاد، درس بليغ لكل مسلم، أن لا يتخلف عن عملٍ يقتضيه دينه، فالراحة والسعادة لا معنى ولا طعم لهما مع معصية الله، وأن التخلف عن القيام بواجباتنا نقص في الإيمان، وخلل في الدين لابد فيه من التوبة الصادقة مع الله ..