تعتبر غزوة تبوك من أعظم مغازي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وذلك لصعوبة الظروف التي وقعت فيها، من شدة الحر وبعد المكان، وقلة المال والماء والدواب التي تحمل المجاهدين، وكثرة العدو وقوته، ولم يكن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحدد سيره في غزوة من الغزوات إلا في هذه الغزوة ..
وسميت باسم غزوة تبوك نسبة إلى عين ماء يقال لها تبوك، فعن معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ( ستأتون غدا إن شاء الله عين تبوك، وإنكم لن تأتوها حتى يضحى النهار، فمن جاءها منكم فلا يمس من مائها شيئا حتى آتى ) رواه مسلم، كما سميت كذلك بغزوة العسرة .
وقد شهدت تبوك العديد من أعلام النبوة والمعجزات التي أجراها الله على يد نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ تأييداً له، وإظهاراً لصدقه، وهي مابين إخبار عن أمور غيبية أو معجزات حسية شهدها الصحابة وعاشوها، ومن ذلك :
سرعة استجابة دعائه ـ صلى الله عليه وسلم ـ :
من المعجزات والآيات التي أُعطى الله إياها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، تأييداً لدعوته، وإكراماً له، وإعلاءً لقدره، وهي من دلائل نبوته، سرعة استجابة الله لدعائه .. ولرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الدعوات المستجابة ما لا يُحصى، مما امتلأت به كتب السيرة والحديث، ولغزوة تبوك نصيب فيها ..
نزول المطر وكثرة الماء :
توجه الجيش الإسلامي بقيادة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى تبوك وفي أثناء سيرهم أصبح الناس ولا ماء لهم، فشكوا ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ربه، واستسقى لمن معه من المسلمين، فأرسل الله سحابة فأمطرت .
قال ابن هشام : " بلغني عن الزهري أنه قال: لما مر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالحِجْر سجى ثوبه على وجهه واستحث راحلته ثم قال:( لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا إلا وأنتم باكون خوفا أن يصيبكم مثل ما أصابهم )، فلما أصبح الناس ولا ماء معهم شكوا ذلك إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فدعا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فأرسل الله ـ سبحانه ـ سحابة فأمطرت حتى ارتوى الناس واحتملوا حاجتهم من الماء .. " .
تكثير الطعام :
في أثناء سير الجيش الإسلامي إلى تبوك أخذ الجوع من الصحابة كل مأخذ ، فاستأذنوا النبي - صلى الله عليه وسلم ـ في نحر الدواب التي تحملهم ، فطلب منهم أن يأتوه بفضل طعامهم فدعا فيه بالبركة، فأكلوا حتى شبعوا وبقي معهم الكثير ..
قال أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ: ( لما كانت غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة، فقالوا: يا رسول الله لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا(الإبل التي يسقى عليها) فأكلنا وأدمنا، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: افعلوا، فجاء عمر فقال: يا رسول الله إنهم إن فعلوا قل الظهر(الإبل)، ولكن ادعهم بفضل أزوادهم (طعامهم)، ثم ادع لهم عليها بالبركة، لعل الله أن يجعل في ذلك . فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنطع (جلد) فبسطه، ثم دعاهم بفضل أزوادهم فجعل الرجل يجئ بكف الذرة، والآخر بكف التمر، والآخر بالكسرة حتى اجتمع على النطع في ذلك شيء يسير، ثم دعا عليه بالبركة، ثم قال لهم: خذوا في أوعيتكم، فأخذوا من أوعيتهم حتى ما تركوا من المعسكر وعاء إلا ملأوه، وأكلوا حتى شبعوا، وفضلت منه فضلة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فتحجب عنه الجنة ) رواه مسلم .
وقد تكرّرت هذه المعجزة ـ من تكثير الطعام والماء ونزول المطر في أماكن مختلفة، ومناسبات متعددة، بدعائه وبركته ـ صلى الله عليه وسلم ـ ..
إخبار بأمور غيبية ومستقبلية :
من معجزات رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودلائل نبوته ما اطلع عليه من الغيوب الماضية والمستقبلية، وإخباره عنها ووقوعها وفق ما أخبر ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
ومن المقرر أن علم الغيب مختص بالله تعالى وحده، وقد أضافه الله تعالى إلى نفسه في آيات كثيرة من القرآن الكريم، قال تعالى: { قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } (النمل:65), وكما جاءت الأدلة تدل على أن الله ـ تعالى ـ اختص بمعرفة علم الغيب، جاءت أدلة أخرى تفيد أن الله استثنى من خلقه من ارتضاه من الرسل، فأودعهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم، وجعله معجزة لهم ودلالة صادقة على نبوتهم، قال تعالى: { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً }(الجـن:26 : 27) .
ومن ثمَّ فما وقع على لسان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في غزوة تبوك وغيرها من الإخبار عن الأمور الغيبية فبوحي من الله تعالى، للدلالة على صدقه وهي من أعلام نبوته .
في طريق السير إلى تبوك ضلت ناقة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فحاول أحد المنافقين أن يُشَكِّك في نُبُوَّتِه - صلى الله عليه وسلم -، فاستغل فرصة ضياع الناقة فقال في جماعة من الصحابة: " أليس محمد يزعم أنه نبي، ويخبركم عن خبر السماء، وهو لا يدري أين ناقته؟ " ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ في مكان وجمعٍ آخر من أصحابه ولم يسمع ما قال المنافق، فقال لأصحابه ـ كما ذكر الطبري والبيهقي، وابن هشام في سيرته: ( .. إن رجلاً قال : هذا محمد يخبركم أنه نبي، ويزعم أنه يخبركم بأمر السماء وهو لا يدري أين ناقته، وإني والله ما أعلم إلا ما علمني الله، وقد دلني الله عليها، وهي في هذا الوادي في شِعْب كذا وكذا، قد حبستها شجرة بزمامها، فانطلقوا حتى تأتوني بها، فذهبوا فجاؤا بها ) .
وكذلك أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه في تبوك بأن ريحاً شديدة ستهب عليهم، وأمرهم بأن يحتاطوا لأنفسهم ودوابهم حتى لا تؤذيهم ..
وتحقق ما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فعن أبي حميد ـ رضي الله عنه ـ قال : ( وانطلقنا حتى قدمنا تبوك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ستهب عليكم الليلة ريح شديدة، فلا يقم فيها أحد منكم فمن كان له بعير فليشد عقاله ، فهبت ريح شديدة، فقام رجل فحملته الريح حتى ألقته بجبل طيئ ) رواه مسلم .
قال النووي معقباً على هذا الحديث: " هذا الحديث فيه هذه المعجزة الظاهرة من إخباره - صلى الله عليه وسلم - بالمغيب، وخوف الضرر من القيام وقت الريح ".
وظهر كذلك إخبار رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأمر مستقبلي فيما أخبر به عن تغير منطقة تبوك ..
فقد كانت صحراء جرداء، ومع ذلك أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم ـ أصحابه بتحوّل تلك المنطقة القاحلة إلى بساتين خضراء، وقد تحقّق ما أخبر عنه - صلى الله عليه وسلم ـ، فصارت ولا زالت تبوك تعرف حتى اليوم بجنانها وبساتينها وثمارها، وتنطق بصدق نبوة الحبيب ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتشهد بأنه لا يتكلم إلا صدقاً، ولا يخبر إلا حقاً، ولا ينبئ بشيء إلا ويتحقق، فقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمعاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ في أثناء سيرهم في غزوة تبوك : ( يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما هاهنا قد ملئ جناناً ) رواه مسلم .
هذه بعض مواقف في غزوة تبوك، سجلتها كتب السيرة والحديث، وهي من معجزات وأعلام نبوته ـ صلى الله عليه وسلم ـ التي بقيت شاهدة على صدقه، وعلو منزلته عند ربه، مما زاد الله بها المؤمنين إيمانًا وثباتاً وتصديقًا، وحسن اتباع لرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ..