السلفيون والإعلام المفخخ

المتابع للمسار السياسي في مصر خلال العقود القليلة الماضية يعلم أن المنتسبين إلى المنهج السلفي كانوا بعيدين عن المشهد السياسي أو دخول المعترك السياسي ـ لأمور أعلنوا عنها ومبررات عندهم ذكروها، سواء وافقهم الموافق أو خالفهم في رأيهم مخالف ـ لكنهم وإن تركوا هذا المعترك فقد خاضوا معتركا آخر رأوه أكثر أهمية وهو مخالطة الناس، ومعايشتهم في مشاكلهم، والقرب منهم، وباختصار شديد عاشوا حياة الناس الاجتماعية وشاركوهم همومهم، فدخلوا قلوب الناس، والمرء عبد الإحسان:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم .. .. فطالما استعبد الإنسان إحسان

وبعد أن حدث في مصر ما حدث، وذهب الكابوس الجاثم على قلوب أهل مصر عامة وأهل الدين خاصة والسلفيون بالأخص ـ تغير الوضع السياسي، وارتأى قادة السلفية أن الحال تسمح الآن ـ بل رآها بعضهم تستلزم أو حتى توجب ـ مشاركة سياسية لأن الموانع ـ في رأيهم ـ قد زالت أو معظمها.

وبالفعل ولد حزب سياسي يمثل التيار السلفي ـ حزب النور ـ وتقرر أيضا دخول الانتخابات.. ولم يكن أكثر المتفائلين يتوقع أن ينال حزب لا تاريخ سياسي له أن يأتي في المرتبة الثانية وبنسبة ليست بالقليلة بعد حزب العدالة والحرية ـ إسلامي أيضا ـ صاحب التاريخ السياسي الطويل.. ولكن هؤلاء نسوا أو تناسوا أو لم يقدروا تاريخ النضال الاجتماعي وانخراط الإسلاميين عموما مع الناس ومحبة المصريين الفطرية للدين، علاوة على بغض الناس للأفكار المناهضة للإسلام أو غير الراغبة فيه بعد أن زهدهم فيها النظام القديم وأفعاله.

هذا الظهور الاضطراري للتيار السلفي ـ على الساحة السياسية ـ وبهذه القوة قابله حملة إقصائية شعواء قادها الإعلام الموجه.. حملات ضارية تبحث عن الزلات وتظهر العوار، تقدح ولا تمدح، وتفضح ولا تنصح، سعت في تشويه صورة الإسلاميين، ومحاولة إيصال رسالة للناس بهمجيتهم، وتخلفهم ورجعيتهم، والتخويف من الشريعة الغراء التي ستقطع الأيدي وتخرس الألسن، وتقاطع الفكر والأدب، وتلزم النساء الحجاب أو تلزمهن البيوت عنوة، إلى آخر هذه القائمة الطويلة من التشويه والاتهامات الجائرة والباطلة.

وكان طبيعيا أن يكون للحزب الناشئ من يتحدثون باسمه، ويوضحون للناس برنامجه في الإصلاح والتغيير، وبيان وجهات نظر الحزب في المسائل الشائكة، والمشاكل القائمة، وكيفية حل الأزمات التي يعانيها لشعب والتي عايشها في الحقبة الماضية وما زال.

ولأن الأمر لم يكن في الحسبان، ولم يتأهب له ويستعد له الاستعداد الكافي، كانت هناك مشكلة في بادئ الأمر.. من الذي سيتحدث باسم الدعوة الطافية على السطح، والمتجذرة في قلوب الناس، ومن الذي سيتحدث باسم الحزب ويعرض نفسه للهجوم الضاري والنبش في كل كلمة يقولها، والبحث بين السطور لاستخراج غلطة ولو حتى بالمعنى والمفهوم؟.

وتمثل أول الغيث في المهندس "عبدالمنعم الشحات" الذي نزل الميدان وحده لفترة من الزمن، تعرض فيها لضغوط رهيبة، وعانى معاناة شديدة، نفسية وبدنية وذهنية؛ لكثرة اللقاءات، وتعدد المناظرات، والتنقل بين القنوات، مع اقتراب الوقت، وربما كان هناك أكثر من لقاء في نفس اليوم، مما أرهق الرجل إرهاقا كبيرا.

ومع هذه الضغوط الهائلة كان ولابد أن يكون هناك بعض السقطات، أو الهفوات، أو التصريحات، أو الآراء التي كانت أحيانا وجهات نظر خاصة، أو ردودا على أسئلة مفاجئة لم يكن مستعدا لها، أو تعبيرات خانت صاحبها.. طار لها العلمانيون وضخموها ونفخوا فيها، اتهاما لفكر صاحبها ومحاولة للنيل مما وصفوه بالزحف الإسلامي.

ومع أننا قد نختلف مع "الشحات" في بعض الأمور والطروحات وبعض الردود والتصريحات، لكن الإنصاف يقتضي التماس العذر له؛ نظرا لكل ما كان يتعرض له، ويستلزم الشكر له على ما تحمل طيلة هذه الفترة.

ثم تتابع الغيث وبدأ ظهور كوادر جديدة متحدثة باسم الحزب والدعوة كـ "نادر بكار"، و"يسري حماد"، و"محمد نور"، والذين دخلوا المعترك وحملوا كثيرا مما كان يتحمله "الشحات" وحده.. ومع ذلك بقي العدد قليلا والساحة تحتاج إلى العشرات من أصحاب الفكر السليم، واللسان القويم، والمخزون العلمي والتاريخ، والدراية بالواقع.. وهم آتون بلا شك.

وتلقف الإعلاميون ـ غير المحايدين ـ هؤلاء المتحدثين على أنهم أغرار وأغمار، استضافوهم في أول الأمر ظنا منهم أنهم سيكونون مادة للسخرية والاستهزاء، والتندر بهم، وإضحاك الناس عليهم، لكن.. جرت الرياح بما لم تشته سفنهم، وأظهر الشباب الإسلامي لياقة ولباقة وفكرا نيرا وتوازنا كبيرا؛ فاكتسبوا منابر جديدة يطلون بها على الناس ويتواصلون بها معهم، ويوصلون لهم فكرهم ومنهجهم ورؤيتهم... ولكن:

الذي رأيته ورآه كل متابع أن مقدمي البرامج كانوا يبحثون لهم عن المآزق، ويدبرون لهم الورطات من خلال أسئلة مفخخة في أحيان كثيرة، وأسئلة تافهة في أحيان أكثر منها.. والذي حوى الجد منها نادر، وربما ذرا للرماد في العيون... ففي الوقت الذي كان يُسأل فيه الطرف الآخر في المناظرات أو المحاورات عن برنامج حزبه ورؤيته في التغيير، وخطوات الحلول.. كان الطرف الإسلامي يُسأل عن لبس المرأة للمايوه على الشواطئ!!، ووضع وردة أو شعار الحزب مكان صورة مرشحة، وعن تحجيب النساء عنوة، بل وشرب "النيس كافيه" مكان الشاي (إي والله)، فإذا جد المذيع سأل عن قضية النصارى والفتنة الطائفية، وملف السياحة، وهدم الأهرامات؟؟!!، وأمثال ذلك.. مع "التحليق عليهم" والتضييق في الوقت، ودوام المقاطعة، في الوقت الذي يعطى الطرف الآخر كامل وقته وزيادة.. حتى إن المبالغة في هذا الأمر جعلت المشاهدين يدركون هذا المغزى التفخيخي أو البلاهي الواضح للانحياز.

والملاحظ ـ كلما مر الوقت ـ انحسار الأخطاء، وقلة السقطات، والتمرس في مواجهة الكاميرات وإدارة الحوارات.. لكن تبقى أمور يجب التنبيه عليها والتذكير بها:

ـ المزيد من التدريب والدراسة لعلم الإعلام، وفنون المناظرة، وكيفية مواجهة الكاميرا، وآليات جذب المشاهد والتأثير عليه.. وقد أصبح هذا فنا وعلما يدرس لا ينبغي الاستهانة به.

ـ قراءة فكر المحاور والمقدم بعناية فائقة لاستشفاف نوعية الأسئلة التي يمكن أن تطرح وتجهيز الإجابة على هذه الأسئلة المحتملة خلال الحوار.

ـ الاتفاق على رؤية معينة ثابتة وواضحة في القضايا الدائرة والأسئلة المتكررة التي يكثر الحديث عنها، وتدريب المتحدثين عليها؛ حتى لا تتضارب الأقوال، ويتشتت المتابع، وتتبدد المصداقية.

ـ الحذر الشديد من المطبات والمفخخات وكذلك الأسئلة المفاجئة، مما يستوجب الانتباه الكبير، وتحرير الألفاظ، وحسن اختيار الكلمات المعبرة عن رأي الدعوة أو الحزب، والبعد عن الآراء الشخصية ـ إلا في موقعه ـ مع التنبيه على أنه رأي المتحدث الشخصي.

ـ في السياسة ليس كل ما نرتضيه يجب قوله، وليس كل رأي لي يلزم أن يعلمه الناس، وإن كان حقا، فليس كل حق يقال في كل وقت، والإجابات التي تورط صاحبها أو دعوته فمن النباهة استعمال التورية فيها، أو دفع الإجابة إلى جهة أخرى تفوت على المخالف فرصة التطبيل والتضليل والتهويش وإثارة الرأي العام.

ـ لا بد من بحث عن كوادر جديدة واعية وواعدة، وتأهيلها التأهيل الكامل، وإعدادها لقيادة المرحلة القادمة وإعانة إخوانهم الموجودين على الساحة بالفعل.

ـ ينبغي على أتباع هذا المنهج أن يكون عندهم سعة صدر، وحسن ظن بإخوانهم، وإنصاف لهم، وتقبل لاختلاف وجهات النظر، والتأني في الردود أو توزيع الاتهامات، خصوصا وأن ما يسع الفرد قد لا يسع الجماعة.. بل الواجب التماس الأعذار، والغض عن الهفوات والزلات، مع لزوم النصح في السر، ومداومة الدعاء لهم بالتوفيق.

والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.