حتى لا يسترسل المسلم في خطأ وقع فيه، أو هوىً انساق إليه، لابد له في حياته من وقفات مع نفسه ومع إخوانه، لمراجعة حساباته من جديد، والسير – بعدئذ – على بصيرة.
وقد افتتح البخاري أحد أبواب الصوم بكلمة لأبي الزناد جاء فيها: «إن السنن ووجوه الحق لتأتي كثيرًا على خلاف الرأي»[صحيح البخاري].
فحين يتخذ أحدنا لنفسه قناعات لا يحيد عنها، ولا يقبل المراجعة فيها، قد لا يسلم من هوى يطغيه، أو فساد في الرأي يرديه.
وإن ديننا حين بشّر المجتهد المخطئ بأجر، فإنه لا يقبل في الوقت نفسه التعامي عن الخطأ، والإصرار عليه، وكم أفتى فقهاؤنا بفتاوى ثم رجعوا عنها، لما أعادوا النظر فيها، وتبين لهم الصواب في غيرها، وإن الذين تردهم الملائكة عن الحوض، إنما مصيبتهم في الاسترسال في الغي، ويُقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: " ... إنهم قد بدّلوا بعدك، ولم يزالوا يرجعون على أعقابهم. فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: سحقًا سحقًا" [صحيح سنن ابن ماجه للألباني]. يدعو عليهم بالهلاك، لأنهم لم يراجعوا أنفسهم، ولم يفيئوا إلى الصواب.
والمراجعة وسيلة لمحاسبة النفس، والتصحيح نتيجة تظهر آثارها بالرجوع عن المعصية الجلية، أو الخطأ في الاجتهاد والرأي.
ومن وسائل المراجعة للتصحيح:
الاستماع إلى المشورة بنية البحث عن الحق، وقد أورد البخاري قصة اقتراح عمر على أبي بكر – رضي الله عنهما – أن يجمع القرآن، ولم يقبل أبو بكر بذلك، فقال عمر: «هو والله خير» قال أبو بكر: «فلم يزل عمر يراجعني فيه حتى شرح الله لذلك صدري، ورأيتُ الذي رأى عمر... »[صحيح البخاري] ولم يصرّ على رأيه، ولم يحجزه المنصب عن قبول الصواب ممّن دونه.
ويعين على الصواب:
مطالبة البطانة الصالحة بالتذكير بما هو خير وأصوب، وخاصة حين لا يبادر الآخرون بالتذكير، ولن نكون أصوب رأيًا، ولا أهدى فكرًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال: "... إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيتُ فذكروني .. "[صحيح البخاري]. وحينما نشعر الناس بالترحيب بالتذكير، ونرفع عنهم الحرج الذي قد يتوقعونه، تكون عيون الناس – عندئذ – مرآتنا التي تقوّمنا على الدوام.
وتضمن لنفسك سلامة الطريق وصواب الرأي باتخاذ البطانة الصالحة، وعدم الالتفات إلى المدّاحين، الذين لا يبصّرون أخاهم بأخطائه، ففي الحديث أن: "من ولاه الله عز وجل من أمر المسلمين شيئًا فأراد به خيرًا جعل له وزير صدق، فإن نسي ذكّره، وإن ذكر أعانه "[صحيح سنن النسائي للألباني].
وقد كان الحُر بن قيس من مقربي عمر بن الخطاب، وهمّ عمر أمامه مرة بضرب عُيينة بن حصن لتطاوله عليه، فقال له الحر: « يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {خذ العفو وأْمُر بالعرف وأعرضْ عن الجاهلين}[الأعراف:119] وإن هذا من الجاهلين» يقول الراوي: « والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقّافًا عند كتاب الله»[صحيح البخاري].
وكم من المظالم يمكن أن تزول، وكم من الممارسات الخاطئة يمكن أن تُصحح، حين تقوم البطانة بدورها الصالح.
والخلوة بالنفس من أنجح صور المراجعة، لمحاسبة النفس، وتصحيح العمل:
رُوي عن عمر بن الخطاب قوله: « حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسَبوا، وتزينوا للعرض الأكبر .. ». ويُروى عن ميمون بن مهران قوله: « لا يكون العبد تقيًا حتى يحاسب نفسه كما يحاسب شريكه »[سنن الترمذي] والرابح أخيرًا هو أنت، وليس العيب في الرجوع عن الخطأ، وإنما البلاء الكبير في الإصرار على الباطل.
ومن بركات هذه المراجعة للنفس:
أنها سبب من أسباب رفع البلاء وتخفيف الحساب، ففي بقية كلمة عمر السابقة: « إنما يخف الحساب يوم القيامة على من حاسب نفسه في الدنيا»[سنن الترمذي].
وحين تعمّ المفاسد في أي زمان فالمخرج بالرجوع إلى ديننا، كما قال صلى الله عليه وسلم: "إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلَّط الله عليكم ذُلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم" وفي رواية: «حتى يراجعوا دينهم»[صحيح سنن أبي داود للألباني] وبذلك تكون المراجعة بداية رفع البلاء والذل.
كما أن مراجعة النفس وتصحيح مسارها سبب من أسباب انشراح الصدر للخير، وإيثار الباقي على الفاني، ففي حديث طويل لابن مسعود: «بينما رجل فيمن كان قبلكم، كان في مملكته فتفكر، فعلم أن ذلك – أي المُلك – منقطع عنه، وأن ما هو فيه قد شغله عن عبادة ربه» فاعتزل الملك، وذهب إلى مملكة أخرى يكسب رزقه من عمل يده، وعلم ملك هذه البلاد به وبصلاحه، فقصده الملك، وسعى إليه، واستفسر منه، فقال ملك البلاد: «ما أنت بأحوج إلى ما صنعتَ مني، ثم نزل عن دابته فسيبها، ثم تبعه فكانا جميعًا يعبدان الله عز وجل ... »[مسند أحمد]. واستطاع كل منهما أن يصحح ما أفسد دون أن يعميهما بريق الملك وفتنة الكرسي، وما بدأت صحوة كل منهما إلا بالتفكّر والمراجعة.
والمراجعة والتصحيح فرصة لرأب الصدع بين القلوب، وإصلاح ذات البين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أبواب الجنة تفتح يوم الاثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد لا يُشرك بالله شيئًا، إلا رجل بينه وبين أخيه شحناء، فيُقال: أنظروهما حتى يصطلحا – مرتين "[صحيح مسلم] وما فائدة إنظارهما إن لم يراجع كل منهما نفسه ليبدأ صاحبه بالسلام؟!
وهي سبب من أسباب البراءة من النفاق. قال إبراهيم التيمي: «ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذبًا». وقال ابن أبي مليكة: «أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه» وتعليقًا عليه ينقل ابن حجر قول ابن بطال: «إنهم خافوا لأنهم طالت أعمارهم، حتى رأوا من التغير ما لم يعهدوه، ولم يقدروا على إنكاره، فخافوا أن يكونوا داهنوا بالسكوت»[صحيح البخاري].
وجماع الأمر وملاكه أن يفترض المسلم في نفسه الخطأ، وأن يستحضر عدم العصمة، لئلا يثقل عليه الاعتراف بخطئه، فتسد عليه أبواب التصحيح {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}[الرعد:11]، ولأن الإنسان مخلوق ضعيف، فهو كثير التغير والتقلّب، وهنيئًا لمن كانت فيئته إلى سنة، ومراجعته إلى صواب وتصحيحه إلى ما يرضي الله، فإن الرجوع إلى الحق شأن الأوابين والتوابين.