عقبة الابتلاء ـ عقبة النفس
قال الشيخ محمد حسين يعقوب في كتابه "أصول الوصول إلى الله":
الطريق إلى الله كالطريق الحسية تماما.. تجد فيها أنفاقا مظلمة، ومنحنيات خطيرة، ومطبّات مرهقة... وإن معرفة آفات الطريق من المهمات التي ينبغي للسائر الإلمام بخباياها.. وقد نقلنا عن الشيخ ثلاث آفات على طريق السائرين وهي: الخوف من وحشة التفرد، والفضول، والفتن. وها نحن نسوق إليك بقية هذه الآفات والعقبات.. وهي:
* الآفة الرابعة: عقبة الابتلاء:
وفي الطريق أيها السائر الحبيب – جسر لابد من تجاوزه وعبوره، إذ إن هذا شأن السالكين إلى الله تعالى في كل زمان ومكان، بل و هو من شأن الأنبياء والمرسلين.. ذلكم الجسر هو الابتلاء والمحن التي تصيب السائر.
و قد كان أول تبشير للرسول صلى الله عليه وسلم بالنبوة إنذاره بالإخراج.. قال ورقة: ما أتى رجل بمثل ما آتيت به إلا عودي.. وقال الراهب للغلام: أنت اليوم أفضل مني وإنك ستبتلى.. وقيل للشافعي: أحب إليك أن يمكن الرجل أو يبتلى؟ فقال: لا يمكّن حتى يبتلى.
فالجسر إلى التمكين في هذا الطريق هو الابتلاء.. ولابد من الصبر فيه والاحتساب، والرضا عن الله-تعالى-وبه، فإنه جسر الوصول.. وقد حفت الجنة بالمكاره.. يقول ابن القيم: "وإن تأملت حكمته سبحانه تعالى فيما ابتلى به عباده وصفوته بما ساقهم به إلى أجلّ الغايات، وأكمل النهايات التي لم يكونوا يعبرون إليها إلا على جسر من الابتلاء والامتحان، وكان ذلك الجسر لكماله كالجسر الذي لا سبيل لعبورهم إلى الجنة إلا عليه، وكان ذلك الابتلاء والامتحان عين المنحة في حقهم والكرامة، فصورته صورة ابتلاء وامتحان، وباطنه فيه الرحمة والنعمة، فكم لله من نعمة جسيمة، ومنّة عظيمة، تجنى من قطوف الابتلاء والامتحان".
وللمحن في هذا الطريق خصائص ومميزات، فكما أن المسلم يجب ألا ينفك عن عبادة ما.. :{قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الأنعام: 162)، فلابد أن يكون شعوره بالابتلاء هكذا: أنه في عبادة، يدوم معه في كل حركاته وسكناته، حتى يستصحب نية العبد على البلاء، واحتساب الأجر عند السميع البصير: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} (الشعراء: 218- 219) وهذا الجسر خطير.. جسر الابتلاء.. فإن كثيرا من السالكين ضعفت قوته عن عبوره فرجع القهقري وترك الطريق.
الآفة الخامسة: عقبة النفس:
ثم يطالعك جسر آخر على الطريق.. وهو النفس – نعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا–.. يقول ابن القيم في المدارج: "فالنفس جبل عظيم شاق في طريق السير الى الله – عز وجل، وكل سائر لا طريق له إلا على ذلك الجبل، فلابد أن ينتهي إليه، ولكن منهم من هو شاق عليه. ومنهم من هو سهل عليه، وإنه يسير على من يسّره الله عليه. وفي ذلك الجبل أودية وشعاب، وعقبات ووهود، وشوك وعوسج وعليق وشبرق، ولصوص يقتطعون الطريق على السائرين، ولاسيما أهل الليل المدلجين. فإذا لم يكن معهم عُدد الإيمان ومصابيح اليقين تتقد بزيت الإخبات، وإلا تعلقت بهم تلك الموانع، وتشبثت بهم تلك القواطع، وحالت بينهم وبين السير. فإن أكثر السائرين فيه رجعوا على أعقابهم لما عجزوا عن قطعه واقتحام عقباته. والشيطان على قُلة ذلك الجبل، يحذر الناس من صعوده وارتفاعه ويخوفهم منه. فتتفق مشقة الصعود وقعود ذلك المُخوّف على قُلته وضعف عزيمة السائر ونيته، فيتولد من ذلك الانقطاع والرجوع، والمعصوم من عصمة الله.
فالنفس أمارة بالسوء، داعية إلى المهالك، طامحة إلى الشهوات، ولذا فهي أيضا جسر لابد من عبوره.. أتى رجل إلى أبي علي الدقاق. فقال: قطعت إليك مسافة، فقال: ليس هذا الأمر بقطع المسافات، فارق نفسك بخطوة تصل إلى المطلوب. فلا بد من عبور جسر النفس.. شهواتها.. وملذاتها.. أهوائها.. وآمالها.. لابد أن تعبر مرحلة "نفسي وما تشتهي" لتصل عبر جسر نفسك إلى ما يرضي ربك.
ويزيدك بصيرة في الأمر قول ابن القيم – رحمه الله في طريق الهجرتين: "وكلما سكنت نفسه من كلال السير ومواصلة الشد والرحيل، وعدها قرب التلاقي وبرد العيش عند الوصول، فيحدث لها ذلك نشاطا وفرحا وهمة. فهو يقول: يا نفس أبشري فقد قرب المنزل ودنا التلاقي، فلا تنقطعي في الطريق دون الوصول، فيحال بينك وبين منازل الأحبة، فإن صبرت وواصلت السير وصلت حميدة مسرورة جزلة، وتلقتك الأحبة بأنواع التحف والكرامات، وليس بينك وبين ذلك إلا صبر ساعة، فإن الدنيا كلها لساعة من ساعات الآخرة، وعمرك درجة من درج تلك الساعة، فالله الله لا تنقطعي في المفازة، فهو – والله – الهلاك والعطب لو كنت تعلمين.
فإن استصعبت عليه، فليذكرها ما أمامها من أحبابها وما لديهم من الإكرام والإنعام. وما خلفها من أعدائها، وما لديهم من الإهانة والعذاب وأنواع البلاء؛ فإن رجعت فإلى أعدائها رجوعها، وإن تقدمت فإلى أحبابها مسيرها، وإن وقفت في طريقها أدركها أعداؤها، فإنهم وراءها في طلب مصيرها. ولابد لها من قسم من هذه الأقسام الثلاثة فلتختر أيها شاءت.
وليجعل حديث الأحبة وشأنهم حاديها وسائقها، ونور معرفتهم وإرشادهم هاديها ودليلها، وصدق ودادهم وحبهم غذاءها وشرابها ودواءها، ولا يوحشه انفراده في طريق سفره، ولا يغتر بكثرة المنقطعين، فألم انقطاعه وبعاده واصل إليه دونهم، وحظه من القرب والكرامة مختص به دونهم، فما معنى الاشتغال بهم والانقطاع معهم؟ وليعلم أن هذه الوحشة لا تدوم بل هي من عوارض الطريق، فسوف تبدو له الخيام، وسوف يخرج إليه المتلقون يهنئونه بالسلامة والوصول إليهم. فيا قرة عينه إذ ذاك، ويا فرحته إذ يقول: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (*) ِبمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} (يس: 26-27)
هذا هو جسر النفس.. البلاء الأكبر.. والعائق الأشد.. يشبه الجسر المعلق الذي لا جوانب له يستند عليها السائر.. فهو خطر جدا لابد عند المرور عليه من التركيز والهدوء.. والتيقظ والانتباه لكل حركة يد ونقلة رجل.. وإلا.. فالسقوط.
وبعد – أيها السائر الحبيب: فيا سعادة من جاهد تلك الآفات. نعم: إنها أشواك، لكنها أشواق.. يستشعر فيها السائر لذة الألم لله واحتساب الأجر من الله.. فدس الشوك، وسر إلى الله..
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
من كتاب "أصول الوصول"