الموضوعُ الذي أناقشه اليوم لا أريد أن أناقشه من منحى شرعي فأنا لستُ شرعياً، أو أن أتعرض له من منطق العادات والأعراف فما ذاك تخصصي. ولكني أُطِلّ على الموضوع من خلال عدسةٍ مثل عدسةِ «عين الجاسوس» التي توضع في أبواب المنازل والشقق وغرف الفنادق لمعرفة من وراء الباب، فتكشف عينـُك المنظرَ أو الوجهَ أمامك، وأنت معزولٌ بكامل جسدك، خارج الإطار، خارج الصورة. فمع أنك قريب، ولكن بلا مشاركةٍ أو مواجهةٍ مادّية، حين تكون المسافة والحركة وجودا.
من منطلق الحركةِ والثبات، من مشهد المراقبة والاعتزال أعيدُ تقديم موضوعٍ يجب أن نعيد دراسته، بدافع اقتراح التمعّن في ظاهرةٍ مهمةٍ إن حصلتْ، ومهمة إن كانت ستحصل، ومهمة إن حصلت في أضيق نطاق.. إنها مسألة الاختلاط.. ليست رؤية فلسفية أو أخلاقية في الاختلاط بين الجنسين، ولكن في ما يحيط به من مضاعفات ونتائج، قبل ما قد يرى البعض ما فيه من فضائل وحسنات.. أو إقرارٍ لواقع معاش لا يقاوم.
نكرر دائما مقولة: «لمَ لا نبدأ من حيث انتهى الآخرون؟» أو: «لمَ لا نستفيد ونتعّظ ونتجنب ما وقع فيه الآخرون من أخطاء؟»، فلم لا نفعل هذا أيضا مع ظاهرة الاختلاط؟ ويجب أن نفعل، إن كان يهمنا أمرُ من يعيش في هذا المجتمع ومجتمعات المسلمين.
لا يمكن ولا نقبل منطقا ولا عقلا أن ينفي أحدٌ أن الاختلاط غير قائمٍ في بلادنا، قد يكون غير منظم، قد يكون خارج ما ينطق به نصّ النظام، قد يكون مما لا يقرّه الشرع.. ولكنه موجود، موجود أكان بصغرِ نور الشرارة، أم باتساع كاشف المنارة، أو حتى أكبر من ذلك بكثير في بعض بلدان المسلمين.
وهنا لن أجتهد، ولا أحتاجُ اجتهاداً لبيان النتائج والحديث عن العواقب، وإنما سأنطلق من أكثر مكان يتاح فيه الاختلاط بأقصاه، ليس في مكاتب «الوول ستريت» أو «السيتي»، ولا في «هوليوود» أو مسارح باريس، بل من أقصى أنواع الاختلاط في الإتاحة، وأقساهُ في فرض عقوبات التعدي، من الجيش الأمريكي، حيث تمارس المرأة المجندة كل شيء يمارسه الرجلُ المجنّد .. كل شيء!
وحان أن تسمع ما قالته في مجلة «التايم» الأمريكية في عدد الثامن من آذار (مارس) الجاري، في الصفحة الأخيرة، وفي رأي تقريري مدعّم، الكاتبةُ «نانسي جبس Nancy Gibbs»، ومقالها بعنوان: «الحربُ من الداخل The War Within»، أما ترجمة العنوان الاستهلالي للموضوع: «بالنسبة لكثير من المجندات الأمريكيات، فإن الخطرَ يأتي أيضا من رفقائهم الرجال»! كيف يا نانسي؟!
تبدأ «نانسي» بمشهد، كأنه خرج لتوّه من فيلم لكوبولا أو هتشكوك، فتقول: «قولوا لي عن ماذا يفصح تعمد النساء المجندات وراء البحار التوقف تماما عن شرب الماء (والمقصود هنا هو الماء الحقيق) من السابعة مساء؟ إنه لتقليل احتمالات حدوث الاغتصاب لإحداهن عندما تذهب لقضاء الحاجة ليلا»!
وأنا لم أستطع أن أقرأ المقالَ دفعة واحدة كعادتي، بل أضع المجلة جانبا ثم أطلق للدهشة أن ترحل عن بؤرة التركيز لأتابع وهي تتحدث «عن تلك المجندة التي تعرضت لاعتداء جنسي، وقد تسللت خارج الثكنة لتطلق سيجارة في الهواء، ثم كتمتْ الحادثة تماما، لأنها ستتعرض لمعاقبة غليظة لأنها خرجت من الثكنة..» ولكن لماذا تعاقب هذه المجندة لخروجها؟ هل لأنها خرقت الحظر؟ هل لأنها لم تستأذن؟ هل لأنها أشعلت لفافة تبغ؟ لا، تقول نانسي: «لأنه يُمنع على المجندات الخروج خارج الثكنة بدون سلاح»! طبعا لتوقُّعِ أن يتبعها أحد «الرفاق» ويستغل الهواءَ الطلق لرغبته، كما استغلت الهواءَ الطلق لرغبتها!.. فيا له من عالم موحش!
كل أمريكا تعرف أن الاغتصابَ والتحرش بين المجندات لا يظهر إلا رأسُه، وتبقى الكتلة الهائلة تحت سطح قاتم وكتيم من السرية والتهديد والخوف والعار.. نعم في الولايات المتحدة الأمريكية ضامنة الحريات الأولى في العالم، وجيشـُها الجرّارُ الذي يدور القاراتِ، ويمخر المحيطات، ويعبر الأجواءَ تحت شعار ضمان الحرية للعالم، كل ساعةٍ تُغتـَصَبُ فيه مجندةٌ، وغير المعلن سيكون فضيحة الأمّة الأكبر.
وفي الجيش الأمريكي قانونٌ صارم، بنظام حاد التطبيق في كل ما يخص مسائل التحرش والعنصرية، أخفها السجن والتسريح من الجيش .. ومع ذلك زادت نسبة التحرش والاغتصاب في عام 2009 بمعدل 9 في المائة على العام الذي سبقه. والمجندة الأمريكية قوية، وفائقة التدريب، وقادرة على خوض المعارك والالتحام المباشر، وتتلقى تدريباتٍ مكثفة عضلية وتقنية لرد أي اعتداء، إلا أن ذلك لم يحدّ من معدلات التحرش ولا الإذلال.. (والطريف، إن رأيتموه طريفا، هناك قضايا مسجلة، وليست قليلة، بتحرش بعض النساء المجندات ببعض الرجال وخاصة بالموظفين المدنيين، وهذه أيضا نتيجة متساوية إن لم تزد).
وفي مدينة «مكسكيو» والتي تم إعلانها مدينة لتكون بعد سنتين مجتمعا ينفصل فيه النساءُ والرجال في كل محفل عام، لأن نسبة التحرش والإجرام والاعتداء على النساء فاقت كل تصور، وتعدت قدرات قوات الأمن.
من هنا يجب أن ننظر لمسألة الاختلاط، من عواقبها عند الناس الذين آمنوا بها وناضلوا من أجلها، وأقروها مظهرا لازما من مظاهر الحياة.. ومن يتعرض لأي شيءٍ فعلى الأقل، يجب أن يستعد لعواقبه!
ــــــــــــــــــــــــ
نجيب الزامل