في أول حملة عسكرية لتأديب الخصوم والأعداء بعد غزوة الأحزاب وبني قريظة ، أرسل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ محمد بن مسلمة ـ رضي الله عنه ـ في ثلاثين راكبا لشن الغارة على القبائل النجدية من بني بكر بن كلاب الذين كانوا يقطنون القرطاء ، على مسافة سبع ليالٍ من المدينة ، وكان ذلك في العاشر من المحرم من السنة السادسة من الهجرة ، فسار إليهم يكمن النهار ويسير بالليل حتى دهمهم على غِرَّة ، فقتل منهم عشرة وفر الباقون ، وغنم المسلمون إبلهم وماشيتهم ..
وفي طريق عودة المسلمين أسروا ثمامة بن أثال الحنفي سيد بني حنيفة، وهم لا يعرفونه ، فقدموا به المدينة وربطوه بسارية من سواري المسجد ، وقد اطلع عليه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فعرفه وكلمه ، ثم أمر بإطلاق سراحه ، وقد تأثر ثمامة بجو المسجد ورؤيته للصحابة ، وموقف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الكريم بالعفو عنه وإطلاق سراحه ، فبادر بإعلان إسلامه ..
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : ( بعث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خيلاً قِبَل نجد ، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال ، فربطوه بسارية من سواري المسجد ، فخرج إليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : ما عندك يا ثمامة ؟ ، فقال : عندي خير يا محمد ، إن تقتلني تقتل ذا دم ، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت .. فتُرِك حتى كان الغد فقال : ما عندك يا ثمامة ؟ ، فقال : ما قلت لك ، إن تنعم تنعم على شاكر .. فتركه حتى كان بعد الغد فقال : ما عندك يا ثمامة ؟ ، فقال : عندي ما قلت لك ، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أطلقوا ثمامة .. فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، يا محمد : والله ما كان على الأرض وجه أبغض إليَّ من وجهك فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إليَّ ، والله ما كان من دين أبغض إليَّ من دينك فأصبح دينك أحب دين إليَّ ، والله ما كان من بلد أبغض إليَّ من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد إليَّ ، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى ؟ ، فبشره رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأمره أن يعتمر .. فلما قدم مكة قال له قائل : صبوت (خرجت من دينك) ؟ ، قال : لا ولكن أسلمت مع محمد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ )(البخاري) ..
وقد برَّ ثمامة ـ رضي الله عنه ـ بقسَمِه ، فحبس عن أهل مكة ما كان يأتيهم منه من منافعهم وطعامهم ، فلما أضر بهم كتبوا إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إن عهدنا بك وأنت تأمر بصلة الرحم وتحض عليها، وإن ثمامة قد قطع عنا ميرتنا وأضرَّ بنا ، فإن رأيت أن تكتب إليه أن يخلى بيننا وبين ميرتنا فافعل ..
فاستجاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لرجاء قومه بالرغم أنه في حالة حرب معهم ، وكتب إلى سيد بني حنيفة ثمامة : ( أن خَلِّ بين قومي وبين ميرتهم ) .. فامتثل ثمامة أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وسمح لبني حنيفة باستئناف إرسال المحاصيل إلى مكة ، فارتفع عن أهلها الخوف من المجاعة .
قال الحافظ ابن حجر : " وفي قصة ثمامة من الفوائد : ربط الكافر في المسجد ، والمنِّ على الأسير الكافر ، وتعظيم أمر العفو عن المسيء ، لأن ثمامة أقسم أن بغضه انقلب حباً في ساعة واحدة لما أسداه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إليه من العفو والمن بغير مقابل ، وفيه الاغتسال عند الإسلام ، وأن الإحسان يزيل البغض ويثبت الحب ، وأن الكافر إذا أراد عمل خير ثم أسلم شرع له أن يستمر في عمل ذلك الخير، وفيه الملاطفة بمن يرجى إسلامه من الأسارى إذا كان في ذلك مصلحة للإسلام ـ ولا سيما من يتبعه على إسلامه العدد الكثير من قومه ـ .. وفيه بعث السرايا إلى بلاد الكفار وأسر من وجد منهم، والتخيير بعد ذلك في قتله أو الإبقاء عليه .. " ..
وفي قصة ثمامة ـ رضي الله عنه ـ ظهر عِظم أمر العفو عن المسيء كما قال الله تعالى : { وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } (فصلت:34). فقد صار ـ رضي الله عنه ـ من فضلاء الصحابة ، وهدى الله به خلقاً كثيراً من قومه ، وظل ما امتدت به الحياة وفيَّاً لدينه ، حافظاً لعهد نبيه ، فلما التحق الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالرفيق الأعلى ، لم يرتد مع من ارتد من أهل اليمامة ، وقال لقومه محذرا لهم من مسيلمة الكذاب : " يا بني حنيفة إياكم وهذا الأمر المظلم الذي لا نور فيه ، إنه والله لشقاء كتبه الله ـ عز وجل ـ على من أخذ به منكم ، وبلاء على من لم يأخذ به ، ثم قال : يا بني حنيفة إنه لا يجتمع نبيان في وقت واحد ، وإن محمدا رسول الله لا نبي بعده .." ..
وكان ذلك التحول في حياة ثمامة ـ رضي الله عنه ـ أثر من آثار حكمة وأخلاق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين قال: ( أطلقوا ثمامة ) ..