اللغة نظام من الرموز الصوتية، يستعمله الإنسان للتعبير عن أفكاره، وانفعالاته ورغباته. ويرى أكثر اللغويين والفلاسفة أن اللغة والفكر متلازمان تلازماً مطلقاً، فلا يتأتى التفكير مجرداً من اللغة، ولا اللغة مجردة من غير فكر.
ومفردات اللغة "إنما هي علامات حسية على الأفكار، وهذه الأفكار هي معناها المباشر. فاللغة هي وسيلة المواصلات للفكر، أو هي التمثيل الطبيعي والخارجي لحالة داخلية، واللغة عبارة عن سلسلة من الكلمات عن تفكير كامل".
وحينما يكون المرء في حالة صمت وفكر مجرد من الكلام ففكره ذلك هو حديث في قرارة النفس ، يتم خلف الشفاه ؛ وإذا كانت الفلسفة تميل إلى عد الفكر سابقاً للكلمة، وهي تالية له، فإن الدراسة العلمية للغة أثبتت عند عدد من الباحثين أنه لا يمكن القول بأسبقية الفكر على اللغة، أو بأسبقية أحدهما على العموم، وأنهما يخضعان لتأثير متبادل، قد يكون متساوياً، بل إن تأثير اللغة في الفكر قد يكون أقوى من تأثير الفكر في اللغة.
ولكن فئة أخرى قليلة تذهب إلى عدم وجود ارتباط نوعي بين الفكر واللغة، وترى أن للفكر وجوداً مستقلاً عن الكلمة، وأن اكتساب اللغة ليس شرطاً حتمياً لحدوث التفكير، ويستدل بعضهم على ذلك بالصم البكم، فهم يفكرون كغيرهم، لكن من غير لغة .
ولا خلاف ـ على كل حال ـ في العلاقة الأزلية بين اللغة والفكر، ولا في أن اللغة للفكر كالأرقام للحساب: لا يمكن تصور عملية حسابية بدون أرقام، مع أن الحساب من حيث هو عملية عقلية، شيء والأرقام شيء آخر. كذلك لا يمكن تصور فكرة بدون ألفاظ.
واللغة ـ بعد ـ عنصر من عناصر ماهية الإنسان، ولذلك عرَّفه الفلاسفة قديماً بأنه حيوان ناطق، كائناً ما كان معنى النطق: العقل، أو الكلام، بعد ما ثبت أنه لا فكر بلا كلام ولا كلام بلا فكر، بل كل واحد منهما هو الآخر بمعنى من المعاني.وهي ـ فوق هذا كله ـ عقائد، وذكريات، وعواطف، وأخيلة، وعلاقات و"تراث اجتماعي ووسيلة من وسائل الإمتاع الفني، وبقية من بقايا فكر الأسلاف الأول"، تصل الأحياء بالأموات، والحاضر بالماضي، وهي مستودع عقل الإنسان، منذ كان، إلى أن تقوم الساعة، فيه يخزن ما أنتج فكره، ليرثه من يخلفه، وليست مجرد أصوات عرضية كأصوات الحيوان، يمكن أن تتعارضها الأمم، فتؤدي للمقترضين ما كانت تؤدي للمقرضين، من غير أثر يتبع ذلك القرض، بل هي هوية موسومة بوسم أهلها مشحونة بخلاصة فكرهم وتصوراتهم، وصور حياتهم، وما اقترض منها انتقل معه حتماً شيء من ذلك.وكل عدول عنها، أو انتقاص منها هو عدول وانتقاص من ثقافة، وتاريخ، وعقيدة، وانسلاخ من هوية .
ولاسيما في هذا العصر الذي يقول لغويوه إن تفضيل لغة على أخرى مرفوض في علم اللغة الحديث، وإن اللغات كلها متكافئة كما قال سابير: "لا معنى لأن نقول إن هناك لغة ـ مهما تكن ـ أكثر فصاحة، أو أكثر ارتباطاً من لغة أخرى قد تكون أكثر تعقيداً، وأكثر صعوبة".
ولمنزلة اللغة من الفكر والهوية سنت مائة وعشرون دولة في العالم قوانين دستورية لما يتعلق بشؤون اللغة ، كما يقول وزير الثقافة الفرنسي.
ومنذ أعوام قليلة قامت فرنسا بحملة لحماية الفرنسية، وأعدت قانوناً يحرم اللجوء "إلى ألفاظ أو عبارات أجنبية في حال وجود لفظ أو عبارة مماثلة في الفرنسية تؤدي المعنى نفسه". ويفرض استعمال الفرنسية في الوثائق والمستندات، والإعلانات المكتوبة والمسموعة، والإعلانات المعروضة على الجمهور في الأمكنة العامة، وفي عقود العمل والأنظمة الداخلية للشركات الأجنبية العاملة في فرنسا، وأقر مجلس الوزراء مشروعه، وناقش العقوبات والغرامات التي يمكن فرضها على من يستعمل كلمة أجنبية لها مرادف من الفرنسية. وفي الثالث عشر من إبريل عام 1994 نوقش في مجلس الشيوخ، ثم أقرته الجمعية الوطنية، وأيدته الأحزاب الفرنسية، وتبارى زعماؤها في التأييد، فقال أحدهم:"ما يعنيه مشروع القانون هو هويتنا الوطنية الواجب تنزيهها عن الشوائب والمثالب". وقال آخر:"اللغة هي إشهار (إعلان) هوية وطنية، والدفاع عنها مسؤولية دولة".
وقد كان العرب في عصور القوة يرون في لغتهم أكثر مما يراه الفرنسيون، كما يقول ابن جني: "والمروي عنهم في شغفهم بلغتهم وتعظيمهم لها واعتقادهم بها أجمل الجميل فيها أكثر من يورد،أو جزء من أجزاء كثيرة منه"، أما حصار اللغات الأجنبية لمنع دخول مفرداتها إلى العربية فكان يقوم به الفرد العادي بدافع من الأنفة من أن يستبدل بلغتة غيرها، كما يظهر من قول أبي المهدي الأعرابي:يقولون لي (شنبذ) ولست مشنبذاً طوال الليالي ما أقام ثبي ولا قائلاً (زوداً) ليعجل صاحبي ..... ولا تاركاً لحني لأحسن لحنهم ولو دار صرف الدهر حيث يدور ، ونهى عن استعمال المفردات الأعجمية، والتحدث بغير العربية الأئمة والخلفاء، وذمه الأدباء، ونفر منه الفقهاء. فقال عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) : "ما تكلم الرجل الفارسية إلا خَبَّ، ولا خَبَّ إلا نقصت مروءته" ، وسمع سعد بن أبي وقاص قوماً يتكلمون بالفارسية فقال "ما بال المجوسية بعد الحنيفية"؟ويرون في ذلك أثراً يرجح بعض العلماء أنه من كلام عمر بن الخطاب، وهو : "من كان يحسن أن يتكلم العربية فلا يتكلم بالفارسية فإنه يورث النفاق".
وقال المبرد: " ثلاث يُحكم عليهم بالاستصغار حتى يُدرى من هم، وهم رجل شممت منه رائحة نبيذ في محفل، أو سمعته في مصر عربي يتكلم بالفارسية، أو رجل رأيته على ظهر طريق ينازع في القدر" ، وكره الإمام الشافعي استعمال الكلمة الأعجمية لها مقابل عربي، كما فعل الذين سموا التجار "سماسرة" وقال : " ينبغي لكل أحد يقدر على تعلم العربية أن يتعلمها، لأنها اللسان الأولى بأن يكون مرغوباً فيه، من غير أن يحرم على أحد أن ينطق بأعجمية ".
وقال ابن تيمية وهو يحض على تعلم العربية والتكلم بها، ويبين تأثير اللغة في الفكر والأخلاق: "واعلم أن اعتياد اللغة يؤثر في العقل والخلق والدين تأثيراً قوياً بيناً، ويؤثر أيضاً في مشابهة صور هذه الأمة من الصحابة والتابعين، ومشابهتهم تزيد العقل والدين والخلق".
وليس في هذا النهي عن تكلم لغات الأعاجم لغير حاجة نهي أو تحريم لتعليمها، لكنه نهي عن وضعها في غير موضعها، وإحلالها محل العربية، والتشدق بها على سبيل المباهاة والتظرف، وعلى وجه يضعف الشخصية، ويذهب التميز، ويعبّد القلوب للآخرين، ويطمس الهوية، وإلا فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت بتعلم العبرية.
لقد ولت تلك الشخصية المتميزة للعرب، المعتزة بلسانها، وصار السواد الأعظم منهم يراها بعين غير التي كانت تُرى بها، وحل محل الإجلال والإعجاب الاستخفاف بها وبأساتذتها، واستصعابها، والعزوف عنها، والعدول إلى اللغات الأجنبية، والاعتزاز بمعرفتها.ويستشري الاستخفاف أكثر شيء في أساتذة الجامعات والمثقفين.
وصورة العربية وآدابها في أذهان هؤلاء أنها تخصص غير ذي شأن، لا ضرورة له في حياة العرب العصرية وأنت اليوم تجد الشخصية العلمية والسياسية البارزة، تتحدث على الملأ، في المؤتمرات العالمية والصحفية ، ومقابلات القنوات الفضائية التي يشاهدها العالم، وفي المحاضرات بمدرجات الجامعات وقاعات الدراسة، نجدها تتحدث باللهجات العامية، التي يتكلم بها سائقو الأجرة والشاحنات، والبناءون ، والحدادون، وعمال النظافة، والأميون، والأعراب، وساكنو الأرياف، ومهرجو المسرحيات الهزلية، يتحدث براحة بال، لا يداخله حرج من أنه أتى غير لائق بالسداد، وأن نظراءه من الدول التي تستهويه لغاتها يترفعون عن مثل ما يأتي، ويأبون أن يسووا أنفسهم في مثل هذه المقامات الدهماء.
ولقد نرى مثل ذلك من أساتذة النحو والصرف والأدب والبلاغة: لا يحاضرون إلا بلغة الشوارع.وإذا عرف واحد من هؤلاء شيئاً من لغة أجنبية وجدت لسانه طيعاً بالحديث به، بمناسبة وبغير مناسبة.
وذلك ناتج من أمرين: أولهما: قلة الوعي الثقافي، وعدم إدراك أن اللغة من جوهر الإنسان، وكل نقص فيها هو نقص في ماهيته، ينبغي استكماله قبل أن تطلب معرفة أو مهنة قد تكون قياماً لحياته، لكنها لا تمس جوهر إنسانيته، ثم عدم إدراك حقيقة اللغات، وأنها متكافئة، من حيث كونها نظاماً من الأصوات يعبر عن حاجات النفس، وهي في الاقتدار على ذلك التعبير متساوية، وأن عدول المرء عن لغته له سبب خارج عن ماهية اللغة، هو عشق أهلها، لا الإعجاب بها هي لذاتها، وهو إذ يعول إلى لغة غيره إنما يضع في عنقه غلاً يقوده ذليلاً لأصحاب تلك اللغة.وثاني الأمرين أن العرب أقاموا علاقتهم بالغرب منذ أن عرفوه على وجه غير صحيح، ولا تزال على ما بنيت عليه أول مرة، وبنيت على انبهار، وغرام وإجلال تولدا من ذلك الانبهار، وتولد منهما الازدراء لكل عربي والعشق للغرب بخيره وشره وبما يكره هو من نفسه، وفتحت أبواب التقليد على مصارعها، حتى أصبح يسيراً عليهم التنازل عن كل خصوصية لمقابلها عند أولئك، بل غدا الحفاظ على الهوية والخصوصية، والحرص على التميز سمة من سمات الرجعية والجمود والانسلاخ من الهوية وملاقاة الغرب في كل شيء، والبدء من حيث بدأ، والانتهاء إلى حيث انتهى هو السبيل إلى النهضة، كما قال طه حسين ـ مثلاً ـ :"إن سبيل النهضة واضحة بينة مستقيمة، ليس فيها اعوجاج ولا التواء، وهي أن نسير سيرة الأوروبيين، ونسلك طريقهم، لنكون لهم أنداداً، ولنكون لهم شركاء في الحضارة: خيرها وشرها، حلوها ومرها، وما يُحب منها وما يُكره، وما يحمد منها وما يعاب، ومن زعم لنا غير ذلك فهو خادع أو مخدوع... إن مصر لن تظفر بالتعليم الجامعي الصحيح، ولن تفلح في تدبير مرافقها الثقافية الهامة إلا إذا عنيت بهاتين اللغتين (اليونانية واللاتينية)، لا في الجامعة وحدها، بل في التعليم العام، قبل كل شيء".
وهذا التصور هو الذي دفع إلى الانسلاخ من العروبة والإسلام، والدعوة إلى التغريب، ونتج من ذلك هذه النظرة إلى العربية والتقليل من شأنها وشأن آدابها ورميها بالعجز عن الوفاء بحاجة العلم والحياة العصرية، وبالصعوبة وعدم العقلانية، وضاق بها بعضهم ذرعاً حتى دعا إلى إحلال العاميات محلها، وكتابتها بالحروف اللاتينية "لعجز حروفها عن تمثيل نطقها"! وكان صوت الداعين إلى هذا صدى لمؤلفات وضعها مندوبو الاستعمار في الدول العربية، وبعض المنصرين، في قواعد اللهجات العامية والدعوة إليها، بدعوى الإشفاق على العرب، والحرص على نهضتهم؛ لسبب إنساني بحت! وترجموا إلى العامية بعض أسفار النصرانية، وشجعوا على الكتابة بها، واستحثوا الحكومات المستعمرة على الإعانة على إحلالها محل العربية. وعمدوا إلى الفصحى يكشفون عن "صعوبتها وعجزها ومعاينتها لحياة الناس، وما يلاقون من المشقة في تعليمها"، وكان أشهر هؤلاء في المشرق، ثلة من المنصرين والقساوسة ؛ ثم سارت في آثارهم فئة من العرب مسلمين ونصارى، منها يعقوب صروف، ورفاعة رافع الطهطاوي، وأحمد لطفي السيد، ومارون غصن، وسلامة موسى، ولويس عوض، ومحمد فريد أبو حديد، وأنيس فريحة، وأنطون مطر، وسعيد عقل.
وإذا كانت مآرب المستعمرين في تمزيق وحدة العرب بقطع الرابطة الثقافية بينهم، وقطع صلتهم بتراثهم وماضيهم، وإبقائهم تبعاً للمستعمرين، والحئول بينهم وبين الإسلام، إذا كانت هذه المآرب بينة، ولها مسوغاتها، فلقد كان العرب مسلوبي العقل والتفكير في هذه القضية، عاجزين عن فهم ما يقولون، عاجزين عن عرضه عرضاً علمياً ينبني على أساس موضوعي. فلقد غضوا الطرف عمداً أو جهلاً أو محاكاة، عن صعوبات اللغات الأجنبية، كالإنجليزية والفرنسية، وعن مساوئها، ومساوئ حروفها الهجائية وصعوبتها وعجزها عن تمثيل الأصوات، وصعوبة الكتابة بها، مما يُقرُّ به أهل تلك اللغات ويضجون منه،غضوا الطرف عن ذلك، كما غضه أهلها الذين اشتغلوا عنه بإصلاح العربية، وإنهاض أهلها حباً لهم وإشفاقاً عليهم! وصبوا جام الغضب على العربية وحدها. ولسنا بصدد الحديث عن شيء مما رميت به العربية ولا بصدد نقضه، لأن تلك الدعوات قد انقلبت خاسئة، ولأن صعوبة اللغة ومجافاتها للعقل لا يجوز أن تصرف أهلها عنها، ولم نرها صرفت أهل لغة عن لغتهم، وقدم اللغة ومخالفتها للهجات المحكية لا يحول دون قدرتها على استيعاب العلوم، وقد بعثت من القبور لغات، ترجمت إليها العلوم، وغدت من اللغات الحية المعترف بها في العالم، ولم يضرها قدمها عند أهلها، ولا عند المستعمرين الناصحين للعربية!غير أن هزيمة الاستعمار وأنصاره لم تنزل العربية منزلها، فقد انحاز بعض سياسيي العرب إلى الثقافة الغربية، وتعصب للغات الأجنبية، وفرضها على بلاده فرضاً، فجعلها لغة التعليم والتعامل، ولغة الوثائق الرسمية، بل اللغة الرسمية في كل شيء، ما عدا الدراسات اللغوية والشرعية، إن وجدت.
ووقف سياسيون آخرون من العربية والهوية العربية موقف الذي لا يبالي، يرون الناس والحياة والمدن تتبدل ليل نهار من أشخاصها وحياتها أشخاص قوم آخرين وحياتهم، فلا يحركون ساكناً، أسماء المتاجر، ولوحات الإعلانات والدعاية، وأسماء الشوارع غير عربية، والملابس المستوردة ـ ولاسيما ملابس الأطفال ـ مزخرفة بالعبارات الأجنبية والأسماء والرموز التي لا تمت إلى الإسلام والعروبة بصلة، وقد تكون دعاء لدولة أجنبية، أو عبارة حب وولاء لها، أو أسماء أوثان أو شخصيات معظمة عند الذين يصدرون هذه الملابس.ومن نافلة القول أن الحكومات العربية هي صاحبة الأمر في كل شأن من شؤون الحياة، وإن أرادت المحافظة على اللغة والهوية فعلت، بقرار، وإن لم تشأ، أو تبال تركت الأمور تجري في أعنتها.ولقد انحازت حكومات عربية بعد رحيل الاستعمار إلى سياسة الاستعمار التعليمية، فلم تول العربية عناية كبيرة، واختصرت مناهجها والوقت المخصص لدراستها، وبوأت العارفين باللغات الأجنبية وخريجي مدارسها المراتب العليا من الدولة، دون خريجي المدارس العربية الإسلامية، فانصرف الناس إلى اللغات الأجنبية والعلوم التطبيقية، عن العربية، ونظروا إليها تلك النظرة المشوبة بالاستخفاف، إذ لم يكن لها عائد مادي كما لغيرها، وإذ كانت غاية التعليم الأولى هي تأمين حياة مادية لائقة؛ فهل تنجح الثورات العربية في إعادة الاعتبار للغة الضاد؟!
_________
" باختصار وتصرف "
- الكاتب:
الدكتور . مختار بن الغوث - التصنيف:
تاريخ و حضارة