منافاة التطيّر لحقيقة التوكّل
التطيّر والتوكّل ضدان لا يجتمعان، وما بينهما من الفرق كما بين المشرق والمغرب، فالمرء إما أن يُسلم وجهه لله ويتعلّق به ويتوكّل عليه ويُخلص في ذلك كلّه، عندها يعيش هاديء البال مطمئناً بقضاء الله وقدره؛ لأنه يعلم أن ما أصابه ما كان ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وتلك هي عقيدة المسلم التي يتسلّح بها في مواجهة مرّ البلاء.
وإما أن يضعف توكّله على خالقه، ويلتفت قلبه إلى سواه، لتجد الضلالات والخرافات إليه سبيلاً، وتسيطر جرثومة الأوهام والأساطير على عقله حتى يلتمس من حركة الطير والحيوانات القدر، ويستنتج سيء الطالع من خلال مشاهدة المزعجات أو سماع المقلقات أو معايشة الأزمنة التي يظنّها موطناً للشؤم والنحس، فأي مباعدةٍ عن خالص التوحيد وصافي العقيدة أوضح من هذه الحال؟.
إن الإسلام يبطل هذا كلّه من خلال التأكيد على ضرورة الاستعانة بالله عزّ وجل والتوكّل عليه، ولذلك أمرهم بهذه العبادة الجليلة في العديد من المواضع من كتابه، فقال سبحانه: {وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين} (المائدة:23)، وقال سبحانه: {وتوكل على الحي الذى لا يموت} (الفرقان:58)، وقال سبحانه: {رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا} (المزمل:9)، بل إن التوكل هو عين الاستعانة التي أُمرنا بامتثالها ونرددها كل يوم في صلواتنا: { إياك نعبد وإياك نستعين}(الفاتحة:4).
وإذا كان المقصد عند العبد أن تحصل له الكفاية مما قد يهمّه ويقلقه من أمور دنياه، فلا يكون ذلك إلا بالتوكّل على الله سبحانه وتفويض الأمور إليه، وذلك هو السبيل لنيل محبّة الله ورضاه، قال تعالى: { فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين} (آل عمران:159)، وقال سبحانه: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} (الطلاق:3)، والأحاديث في هذا المعنى لا تخرج عما ذكرناه، ومنها وصيّة النبي –صلى الله عليه وسلم- الشهيرة لابن عباس رضي الله عنهما: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف ) رواه الترمذي.
يقول الحافظ ابن رجب رحمه الله : "وحقيقة التوكل هو صدق اعتماد القلب على الله عز وجل في استجلاب المصالح، ودفع المضار، من أمور الدنيا والآخرة كلها، أي أن تكل الأمور كلها إليه سبحانه وتعالى ، وتحقق الإيمان بأنه لا يعطي ولا يمنع ولا ينفع سواه".
ولأجل هذا المعنى الدقيق ربط النبي –صلى الله عليه وسلم- بين ترك التطيّر ولزوم التوكّل على الله عزّ وجل في الحديث الصحيح المتفق عليه والذي يحكي عن السبعين ألفاً ممن يدخلون الجنة بغير حسابٍ ولا عذاب، وسوف نورد الحديث لاحقاً .
أدلّة تحريم التطيّر
وردت العديد من النصوص الشرعيّة التي تُحذّر من هذه المعتقدات والتصرّفات وتنهى عنها، وتشدّد النكير على من قارفها ووقع في حبائلها، وقد أخذت الأدلة مساراتٍ متنوّعة في النهي عن الطيرة، ونجد أنها كالآتي:
أولاً: بيان أن الطيرة من أعمال المشركين: فقد أورد القرآن الكريم الطيرة في معرض الذمّ عندما ذكر أحوال الرُسل مع أقوامهم، فوردت عن قوم صالح عليه السلام وعن آل فرعون تطيّراً بموسى عليه السلام وبمن معه، وذُكرت عن أصحاب القرية التي جاءها المرسلون، يقول الإمام ابن القيم: " لم يحك الله التطير إلا عن أعداء الرسل"، والعجب من أهل الفساد والطغيان كيف يتشاءمون ويتطيّرون بأهل الصلاح والاستقامة معدن الخير والبركة!.
ثانياً: بيان أن الطيرة بابٌ من أبواب الشرك وضربٌ من ضروب الجبت –أي السحر-، ورد في ذلك حديث عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه و سلم- قال : (الطيرة شرك –قالها ثلاثاً)، ثم قال ابن مسعود رضي الله عنه : "وما منا إلا..ولكن الله يذهبه بالتوكل" رواه أبو داوود.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (من ردته الطيرة عن حاجة فقد أشرك) قالوا: "يا رسول الله، ما كفارة ذلك؟"، قال: (أن يقول أحدهم: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك) رواه الإمام أحمد.
وعن قبيصة بن المُخارق رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (العيافة والطيرة والطرق من الجبت) رواه أبوداوود، والطَّرق : الضَّرب بالحصا الذي يَفْعله النساء ، وقيل: هو الخطُّ في الرَّمْل .
ثالثاً: النهي عن زجر الطيور: وذلك مستفاد من حديث أم كرز الكعبية أن النبي -صلى الله عليه و سلم- قال يوم الحديبية: (أقروا الطير على مكناتها) رواه أبوداوود، ومعنى الحديث كما ذكر الإمام الطحاوي: " أقروا الطير في مكناتها، أي: لا تحرّكوها؛ فإن تحريكها وما تعملون له من الطيرة لا يصنع شيئاً، وإنما يصنع فيما تتوجهون له قضاء الله سبحانه وتعالى"، فالحديث إذن صريحٌ في النهي عن هذا الفعل.
رابعاً: البراءة من الطيرة والمتطيّرين: فعن عمران بن حصين رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه و سلم- قال : ( ليس منا من تَطير ولا تُطير له، ولا تَكهّن ولا تُكهِّن له، ولا سَحر أو سُحر له) رواه البزار، ومثل هذه البراءة الواردة في الحديث تدلّ على دخول ذنب الطِيرة دائرة الكبائر.
خامساً: نفي تأثير الطيرة: وهر مرويٌ عن عددٍ كبير من الصحابة ، منهم أبو هريرة وأنس بن مالك وعبدالله بن عمر وسعد بن أبي وقاص وأبي سعيد الخدري وعمير بن سعد رضوان الله عليهم أجمعين، كلّهم يُسند إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- قوله: ( لا عدوى ولا طيرة)، فنفى وجود أي تأثير لحركة الطير في فعل الإنسان سلباً أو إيجاباً، فقال – عليه الصلاة والسلام - : ( لا طيرة ) متفق عليه . أي: لا حقيقة لما يعتقده المشركون من أن لحركة الطير تأثيراً، فكل ذلك من خرافات الجاهلية وأوهامها .
والنفي هنا ليس نفياً مجرّداً، ولكنّه نفي يُستفاد منه النهي عن التطيّر إذ لا حقيقة له ولا أثر فكيف يجوز فعله؟، يوضّح ذلك الإمام ابن القيم بقوله: " والنفي في هذا أبلغ من النهي؛ لأن النفي يدل على بطلان ذلك وعدم تأثيره؛ والنهى إنما يدل على المنع منه".
وفي حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه أنه قال: "يا رسول الله، ومنّا أناس يتطيرون"، فقال له: (ذلك شيء يجده أحدكم في نفسه فلا يصدّنه) رواه مسلم فدلّ الحديث على انتفاء وجود الأثر من هذه الطيرة، وفي كتاب مفتاح السعادة كلام نفيس في بيان هذا المعنى، ونصّه: "فأخبر أن تأذّية وتشاؤمه بالتطير إنما هو في نفسه وعقيدته لا في المتطير به، فوهمه وخوفه وإشراكه هو الذي يطيّره ويصده لا ما رآه وسمعه، فأوضح -صلى الله عليه وسلم- لأمته الأمر وبين لهم فساد الطيرة ليعلموا أن الله سبحانه لم يجعل لهم عليها علامة ولا فيها دلالة، ولا نصّبها سبباً لما يخافونه ويحذرونه؛ لتطمئن قلوبهم ولتسكن نفوسهم إلى وحدانيتة تعالى التى أرسل بها رسله وأنزل بها كتبه ،وخلق لأجلها السموات والأرض، وعمر الدارين الجنة والنار".
سادساً: عظم الثواب المترتّب على من ترك التطيّر: فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ( يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب)، وعندما سئل عليه الصلاة والسلام عن أوصافهم قال: (هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيّرون، وعلى ربهم يتوكلون ) متفق عليه، ولا فضلَ يعدل دخول الجنّة بغير سابقة عذاب، ولا نقاش حسابٍ، في يوم عصيبٍ شديد الحرّ كيوم القيامة، ولا شكّ أنهم ما نالوا هذه المنزلة العظيمة والمرتبة الجليلة إلا لأنهم حقّقوا منزلة التوكّل وعلّقوا أمورهم بمن بيده مقاليد السماوات والأرض لا يجلب المنافع ويحقق المطالب ويدفع المضار ويزيل البأس ويكشف البلاء سواه سبحانه وتعالى.
ومثل هذه الأجور العظيمة محجوبةٌ عمن فسد قلبه بتعلقه بغير الله تعالى بالتطيّر، ولذلك قال –صلى الله عليه وسلم-: ( لن يلج الدرجات العلى من تكهّن، أو استقسم، أو رجع من سفر تطيّراً) رواه الطبراني.
سابعاً: تشديد الصحابة ومن بعدهم من السلف الصالح في النهي عن الطيرة: وكتب السنة والتاريخ مليئةٌ بمثل هذه المواقف، فعن عكرمة رحمه الله قال: "كنا جلوسا عند ابن عباس رضي الله عنه، فمرّ طائر يصيح، فقال رجل من القوم: خير خير!، فقال له ابن عباس: لا خير ولا شرّ"، وعن فضال بن عبيد رضي الله عنه أنه قال: " من ردته الطيرة فقد قارف الشرك".
وعندما كان العرب يتشاءمون بشهر شوّال أرادت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن تبيّن بطلان هذا المعتقد الجاهليّ، فقالت: "تزوجني النبي -صلى الله عليه وسلم- في شوال، وبنى بي في شوال، فأي نسائه كان أحظى عنده مني؟" رواه مسلم، يوضّح الإمام النووي ذلك بقوله: " أرادت عائشة رضي الله عنها بهذا الكلام رد ما كانت الجاهلية عليه، وما يتخيله بعض العوام اليوم من كراهة التزوّج والتزويج والدخول في شوال، وهذا باطل لا أصل له، وهو من آثار الجاهلية كانوا يتطيرون بذلك لما في اسم شوال من الأشالة والرفع ".
وعن زياد بن أبي مريم قال: "خرج سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في سفر، فأقبلت الظباء نحوه، حتى إذا دنت منه رجعت، فقال له رجل : أيها الأمير ارجع، فقال له سعد: أخبرني من أيها تطيّرت؟ أمن قرونها حين أقبلت؟ أم من أذنابها حين أدبرت؟، ثم قال سعد عند ذلك : إن الطيرة لشعبة من الشرك. رواه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق في مصنّفيهما.
وخرج طاووس رحمه الله مع صاحب له في سفر، فصاح غراب، فقال الرجل: خير، فقال طاووس: "وأي خير عنده؟ والله لا تصحبني".
وقال وهب بن منبه رحمه الله: " ثلاث من مناقب الكفر: طول الغفلة عن الله، والطيرة، والحسد".
وقال مزاحم بن عبد الحكم رحمه الله: "لما خرج الخليفة عمر بن عبد العزيز من المدينة، فنظرت فإذا القمر في الدبران –منزلة من منازل القمر-، فكرهتُ أن أقول له، فقلت: ألا تنظر إلى القمر ما أحسن استواءه في هذه الليلة؟، فنظر عمر فإذا هو في الدبران، فقال لي: كأنك أردت أن تعلمني أن القمر في الدبران، يا مزاحم إنا لا نخرج بشمس ولا بقمر، ولكنا نخرج بالله الواحد القهار".