في رمضان من السنة الثامنة من الهجرة فتح الله لرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مكة المكرمة وهو الفتح الأعظم، الذي أعز الله به دينه ورسوله، ودخل به الناس في دين الله أفواجا، ودخل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المسجد الحرام، وحوله أصحابه، فاستلم الحجر الأسود وطاف بالبيت، وكان حول البيت ثلاثمائة وستون صنما، فجعل يطعن بعود تلك الآلهة المزيفة المنثورة حول الكعبة، وهو يردد قول الله تعالى: { وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً }(الإسراء:81)، والأصنام تتساقط على وجهها على الأرض، ونادى مناديه بمكة قائلاً : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنماً إلا كسره .. فطهر الله جزيرة العرب من رجس الوثنية، وهيمنة الأصنام والتماثيل ..
ولما اطمأن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد فتح مكة بعث خالد بن الوليد ـ رضي الله عنه ـ إلى العزى ـ أعظم أصنامهم ـ بنخلة ليهدمها، وكانت بيتا يعظمه هذا الحي من قريش وَكِنَانَة وَمُضَر كلها، وكانت سدنتها وحجابها بني شيبان من بني سليم حلفاء بني هاشم، فخرج إليها خالد في ثلاثين فارساً حتى انتهى إليها، فهدمها .
عن أبي الطفيل ـ رضي الله عنه ـ قال : ( لما فتح رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مكة، بعث خالد بن الوليد إلى نخلة،وكانت بها العزى، فأتاها خالد وكانت على ثلاث سمرات (شجرات) ، فقطع السمرات ، وهدم البيت الذي كان عليها ، ثم أتى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأخبره .. فقال: ارجع فإنك لم تصنع شيئا . فرجع خالد فلما أبصرت به السدنة وهم حجبتها أمعنوا في الجبل، وهم يقولون : يا عزى، فأتاها خالد فإذا هي امرأة عريانة، ناشرة شعرها، تحثو(تلقي) التراب على رأسها، فعممها بالسيف حتى قتلها، ثم رجع إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأخبره، فقال: تلك العزى )( النسائي )..
وكذلك بعث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سرية عمرو بن العاص إلى سواع، وسـواع اسم صنم كان لقوم نوح - عليه السلام - ثم صار بعد ذلك لقبيلة هذيل المضرية، وظل هذا الوثن منصوبًا تعبده هذيل وتعظمه، حتى إنهم كانوا يحجون إليه، حتى فُتِحت مكة، ودخلت هذيل فيمن دخل في دين الله أفواجا، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية عمرو بن العاص لتحطيم سواع ..
ويحدثنا قائد السرية عن مهمته ـ كما ذكر ابن القيم في زاد المعاد ـ فيقول : " .. فانتهيت إليه وعنده السادن، فقال: ما تريد؟ قلت: أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ أن أهدمه، قال: لا تقدر على ذلك، قلت: لِم؟ قال: تُمنع، قلت: حتى الآن أنت في الباطل، ويحك! هل يسمع أو يُبْصر؟! قال: فدنوت منه فكسرته، وأمرت أصحابي فهدموا بيت خزانته فلم يجدوا شيئا، ثم قلت للسادن: كيف رأيت؟ قال : أسلمتُ لله " ..
وعن جرير بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قال: قال لي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( ألا تريحني من ذي الخلصة وكان بيتا في خثعم، يسمى كعبة اليمانية قال: فانطلقت في خمسين ومائة فارس من أحمس، وكانوا أصحاب خيل قال: وكنت لا أثبت على الخيل فضرب في صدري، حتى رأيت أثر أصابعه في صدري، وقال: اللهم ثبته واجعله هاديا مهديا فانطلق إليها، فكسرها وحرقها ثم بعث إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يخبره، فقال رسول جرير: والذي بعثك بالحق ما جئتك حتى تركتها كأنها جمل أجوف، أو أجرب .. )( البخاري ).. قال الداودي : " .. شبهها ـ حين ذهب سقفها وكسوتها فصارت سوداء ـ بالجمل الذي زال شعره ونقص جلده من الجرب وصار إلى الهزال " ..
ولما سألت ثقيف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يترك لهم صنمهم اللات لا يهدمها، وألحوا عليه في أن يؤجل هدم الصنم ثلاث سنين، أبَى، فما برحوا يسألونه ويأبى عليهم ، فألحوا على أن يؤجل تحطيمها سنة ويأبى عليهم ، حتى سألوه شهراً واحداً فأبى أن يتركها، فبعث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة ـ رضي الله عنهما ـ يهدمانها، فهدماها في مشهد عظيم ..
يقول ابن القيم في زاد المعاد ـ في فقه قصة وفد ثقيف ـ : " .. هدم مواضع الشرك التي تتخذ بيوتا للطواغيت، وهدمها أحب إلى الله ورسوله، وأنفع للإسلام والمسلمين من هدم الحانات والمواخير، وهذا حال المشاهد المبنية على القبور التي تعبد من دون الله، ويشرك بأربابها مع الله، لا يحل إبقاؤها في الإسلام، ويجب هدمها، ولا يصح وقفها، ولا الوقف عليها، وللإمام أن يقطعها وأوقافها لجند الإسلام، ويستعين بها على مصالح المسلمين " ..
هكذا كان موقف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حماية التوحيد، وسد الذرائع المفضية إلى الشرك بالله، لأن الشرك إذا حدث وسُكِت عنه وعن الأسباب التي ربما تؤدي إليه، لا يلبث أن يصير في حكم الواقع ومن المسلَّمات، ومن ثم فقد دلت الأدلة الشرعية من سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسنته على وجوب هدم الأصنام، ومن ذلك ما رواه عمرو بن عبسة ـ رضي الله عنه ـ أنه قال للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : وبأي شيء أرسلك؟ قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( أرسلني بِصِلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يُوحَد الله لا يُشْرك به شيء )( مسلم )..
ومن ثم كان من أهم فوائد فتح مكة انتزاع تلك البقعة المباركة من براثن الكفر وضمها لحمى الإيمان، وانتهاء عهد الخرافة و الأصنام والشرك، وبدء عصر النور والتوحيد والإسلام ..