لما فتح رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مكة في العام الثامن للهجرة، وفرغ من تبوك، أقبلت الوفود إليه من كل مكان معلنة إسلامها، حتى زاد عدد تلك الوفود في ذلك العام على الستين وفدا، وكان أهم تلك الوفود: وفد عبد القيس، ووفد بني حنيفة ـ وفيهم مسيلمة الكذاب ـ، وفد الأشعريين وأهل اليمن، ووفد بني سعد بن بكر وفيهم ضمام بن ثعلبة ، ووفد نجران ..وكانت الوفادة إليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ، قد بدأت قبل الفتح، إلا أن الوفادة العامة، وفي صورة متوالية مستمرة إنما وقعت بعد عام فتح مكة في السنة التاسعة، ولذلك سميت السنة التاسعة من الهجرة بعام الوفود ..
وقد اهتم النبي - صلى الله عليه وسلم - بتلك الوفود وحرص على تعليمها ، وكان - صلى الله عليه وسلم ـ يبعث مع بعضهم من يعلمهم أحكام دينهم ..
وفد عبد القيس :
كانوا من أول من أسلم خارج المدينة، فلما قدموا إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، رحب بهم، وسألوه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن أمر واضح يعملون به، ويخبرون به من وراءهم .
عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: ( إن وفد عبد القيس لما أتوا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: من القوم؟ـ أو من الوفد؟ ـ، قالوا: ربيعة، قال مرحبا بالقوم أو بالوفد، غير خزايا ولا ندامى . فقالوا يا رسول الله: إنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الشهر الحرام، وبيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، فمرنا بأمر فصْل(واضح)، نخبر به من وراءنا وندخل به الجنة، وسألوه عن الأشربة ، فأمرهم بأربع ونهاهم عن أربع، أمرهم بالإيمان بالله وحده، قال: أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس .. )( البخاري ) .
وكان فيهم عبد الله بن عوف الأشج الذي قال فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( إن فيك خصلتين يحبهما الله : الحلم والأناة ) ( مسلم ) .
وفد بني حنيفة :
جاء وفد بني حنيفة إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكانوا سبعة عشر رجلاً فيهم مسيلمة الكذّاب، فأسلموا ونزلوا في دار بنت الحارث التي كانت مخصّصة للوفود، أما مسيلمة فكان يطمع في المُلك والرياسة واستنكف عن الإسلام، وكان يقول لمن حوله: " إن جعل لي محمد الأمر من بعده تبعته "، فلما سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ مقالته أقبل إليه ومعه ثابت بن قيس ، وفي يده ـ صلى الله عليه وسلم ـ قطعةٌ من جريد النخل، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها، ولن أتعدى أمر الله فيك، ولئن أدبرت ليعقرنك الله، وهذا ثابت يجيبك عني، ثم انصرف عنه ) ( مسلم )..وفي رواية البخاري : ( ولن تعدو أمر الله فيك ) ..
قال النووي : قال القاضي : هما صحيحان، فمعنى الأول: لن أعدو أنا أمر الله فيك، من أني لا أجيبك إلى ما طلبته مما لا ينبغي لك من الاستخلاف أو المشاركة، ومن أني أبلغ ما أنزل إليَّ، وأدفع أمرك بالتي هي أحسن .. ومعنى الثاني : ولن تعدو أنت أمر الله في خيبتك فيما أمَّلته من النبوة وهلاكك دون ذلك، أو فيما سبق من قضاء الله تعالى وقدره في شقاوتك .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( ولئن أدبرت ليعقرنك الله ): أي إن أدبرت عن طاعتي ليقتلنك الله، وقتله الله تعالى يوم اليمامة وهذا من معجزات النبوة " ..
وفد الأشعريين وأهل اليمن :
عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( يقدم عليكم غدا أقوام هم أرق قلوبا للإسلام منكم، قال: فقدم الأشعريون فيهم أبو موسى الأشعري ، فلما دنوا من المدينة جعلوا يرتجزون يقولون: غدا نلقى الأحبة محمداً وحزبه، فلما أن قدموا تصافحوا ، فكانوا هم أول من أحدث المصافحة )( أحمد ) .
وفد ضِمَام بن ثعلبة ـ رضي الله عنه ـ عن قومه بني سعد بن بكر :
قال أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ: ( بينما نحن جلوس مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد دخل رجل على جمل فأناخه في المسجد ثم عقله (ربطه)، ثم قال لهم: أيكم محمد؟، ـ والنبي - صلى الله عليه وسلم - متكئ بين ظهرانيهم ـ، فقلنا هذا الرجل الأبيض المتكئ، فقال له الرجل: ابن عبد المطلب، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: قد أجبتك، فقال الرجل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إني أسألك فمشدد عليك في المسألة، فلا تجد عليَّ (تغضب) في نفسك، فقال: سل عما بدا لك . فقال: أسألك بربك ورب من قبلك، آلله أرسلك إلى الناس كلهم؟ فقال: اللهم نعم . قال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن تصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة؟ قال: اللهم نعم . قال: أنشدك بالله. آلله أمرك أن نصوم هذا الشهر من السنة؟ قال: اللهم نعم . قال: أنشدك بالله. آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها في فقرائنا؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: اللهم نعم. فقال الرجل: آمنت بما جئت به، وأنا رسول من ورائي من قومي وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر ) ( البخاري ).
ورجع ضمام بن ثعلبة ـ رضي الله عنه ـ إلى قومه مسلما، وأخبرهم بما أمره به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ودعاهم إلى الإسلام، فما أمسى من قومه رجل ولا امرأة إلا أسلم, وكان ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ يقول :" فما سمعنا بوافد قوم كان أفضل من ضمام بن ثعلبة " ( أبو داود ).
وكان عمر ـ رضي الله عنه ـ يقول: " ما رأيت أحسن مسألة ولا أوجز من ضمام " ..
وفد نصارى نجْران :
كان هذا الوفد مؤلفا من ستين رجلا، بينهم العاقب وهو أميرهم الذين يمتثلون رأيه، والسيد وهو صاحب رحلتهم، وقد لبثوا عنده ـ صلى الله عليه وسلم ـ أياما يجادلونه في أمر عيسى ـ عليه السلام ـ، ووحدانية الله تعالى، وقد تلا عليهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قول الله تعالى: { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ . الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ . فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ } (آل عمران59 :61) .. فلما أبوا أن يسلموا دعاهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى المباهلة ، أي الدعوة إلى أن يبتهل كل طرف إلى الله أن يجعل لعنته على الطرف الكاذب ، فخافوا وأبوا، فصالحهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على دفعهم الجزية ..
عن حذيفة ـ رضي الله عنه ـ قال: ( جاء العاقب والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يريدان أن يلاعناه، قال: فقال أحدهما لصاحبه : لا تفعل ، فوالله لئن كان نبيا فلاعننا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا ، قالا: إنا نعطيك ما سألتنا، وابعث معنا رجلا أمينا ولا تبعث معنا إلا أمينا، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : لأبعثن معكم رجلا أمينا حق أمين . فاستشرف له أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ فقال: قم يا أبا عبيدة بن الجراح ، فلما قام قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هذا أمين هذه الأمة ) ( البخاري ) .
وذكر ابن سعد : " أن السيد والعاقب رجعا بعد ذلك فأسلما، ثم انتشر الإسلام فيهم "
وفد ثقيف :
قدموا على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فضرب عليهم قبة في ناحية المسجد، لكي يسمعوا القرآن، ويروا الناس إذا صلوا، ومكثوا يختلفون إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وهو يدعوهم إلى الإسلام، حتى سأل رئيسهم أن يكتب لهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قضية صلح بينه وبين ثقيف، يأذن لهم فيه بالزنا وشرب الخمور وأكل الربا، ويترك لهم اللات، وأن يعفيهم من الصلاة، وألا يكسروا أصنامهم بأيديهم، فأبَى ـ رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ أن يقبل شيئاً من ذلك، فخلوا وتشاوروا فلم يجدوا محيصاً عن الاستسلام لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فاستسلموا وأسلموا، فبعث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ معهم أبا سفيان والمغيرة بن شعبة يهدمان اللات، وبذلك تم القضاء على ثاني أكبر طواغيت الشرك في الجزيرة العربية ..
لطالما آذت ثقيف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى أرسل الله ـ عز وجل ـ له مَلَك الجبال ليأمره بإهلاكهم، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( .. بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً )( البخاري ).
ذلك هو رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي لا يعرف انتقاما لنفسه، ولا يحمل ضغينة لأحد، بل يحمل هم هداية الناس ـ وإن آذوه ـ، والأخذ بأيديهم إلى الله ..
لقد تركت لنا تلك الوفود وغيرها منهجاً نبويَّا كريماً في تعامله ـ صلى الله عليه وسلم ـ معهم، وبينت لنا اهتمامه - صلى الله عليه وسلم ـ بهم، وحرصه على تعليمهم أمور دينهم، وحكمته في تعامله ودعوته لهم مع اختلاف معتقداتهم وأفكارهم، فرجعت تلك الوفود دعاة هداة، يعلمون أقوامهم مما تعلموا فأسلموا، وبذلك تمت سيادة الإسلام على كافة أنحاء الجزيرة العربية في العام التاسع الهجري ..