إن التحركات الدبلوماسية الفرنسية الأخيرة لا يمكن فهمها إلا من منطلق كونها تمثل حملةعلاقات عامة، تحاول من خلالها فرنسا أن تسدّ الفراغ الذي أفرزته الثورات العربية خاصة في مصر، فلم تعد هناك دولة عربية ترغب في هذه اللحظات الحاسمة من تاريخالصراع العربي الصهيوني في العمل على إضاعة مزيد من الوقت والجهد من أجل لعبةسياسية مضمونة الفشل، لصالح القوى الغربية و"إسرائيل" في المنطقة، لأن هذه القوىتنتظر توفر معطيات استراتيجية وسياسية جديدة ومغايرة يمكن أن تكون في خدمة الطرف "الإسرائيلي".
خاصة أن التصريحات "الإسرائيلية" لم تتعاط بشكل واضح مع المبادرة الفرنسية بقدر ما ذهبت إلى التأكيد مجدداً على مواقفها المتطرفة التي سبق أن عبّرعنها رئيس الوزراء الصهيوني أمام الكونغرس الأمريكي، كما أن الدبلوماسية الفرنسية التي عودتنا سابقاً على اتخاذ بعض المواقف الجريئة تجاه الطرف "الإسرائيلي"، اكتفت هذه المرة بالحديث عن العموميات، لأن فرنسا ومعها كل دول الاتحاد الأوروبي فقدت كل هامش للمناورة، ولم يعد لها ما تقدمه بشأن عملية السلام في المنطقة بعدما أوصد نتنياهو ومعه اللوبي اليهودي الأمريكي، كل منافذ التحرك السياسي السلمي.
كما أشار وزير الخارجية الفرنسي إلى أنه لا أحد من محاوريه قال له لا، بشأن المقترحات التي تقدم بها، ويبدو أن جوبيه قد نسي أن نتنياهو سبق له أن أفرغ كل ما في جعبته أمام حلفائه الأوفياء في الآيباك والكونغرس الأمريكي، ولم يعد لديه ما يضيفه أمام جوبيه، ولا بأس أن يترك له مزيداً من الوقت لإضاعة ما تبقى من وقت ضائع. ومن اللافت في هذا السياق أن جوبيه حاول أن يمسك العصا من الوسط، لكنه فضل رغم ذلك أنه يوجهها بطريقة ذكية، نحو الطرف الفلسطيني، حينما أكد في تصريحاته أنه "علينا أن نقوم بمحاولة تطوير حماس، التي تظل حتى الآن منظمة "إرهابية"، في اتجاه تخليها عن العنف والإرهاب، وفي اتجاه اعترافها بدولة "إسرائيل"...". لكن مبعوث ساركوزي إلى المنطقة لم يتحدث في المقابل، لا تصريحاً ولا تلميحاً، عن ضرورة تطوير "إسرائيل" في اتجاه دفعها إلى تنفيذ قرارات الشرعية الدولية واحترام الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني.
ويمكن القول عطفاً على ما سبق: إن الدبلوماسية الفرنسية تريد أن تستغل فرصة انشغال الوطن العربي من المحيط إلى الخليج، بواقع الثورات الشعبية التي تعمل على ترسيخ معالم خريطة سياسية عربية جديدة تلتزم بالثوابت وتدافع عن الحقوق، وذلك من أجل محاولة استبدال قمم شرم الشيخ البائدة بقمم باريس التي يراد لها أن تعمل على تعليب أوهام جديدة يفوح منها أريج العطر الفرنسي لتبيعها في حلّتها الجديدة للرأي العام العربي الثائر.
فالقوى الغربية باتت مقتنعة إلى أبعد الحدود، بأنه لم يعد بالإمكان بعد الآن تصنيف المشهد العربي الملتهب وفق الصيغة التقليدية إلى محور للاعتدال وآخر للممانعة، لأن الشعب العربي بات يرفض بشدة خيار هذه القسمة المذلة، خاصة عندما يتعلق الأمر بحقوقه التاريخية والحضارية التي لا يمكن لأي كان أن يتصرف فيها، في زمن لم يعد فيه مكان لدبلوماسية الوقت الضائع.