لم يعد مألوفاً منظر ذلك الرجل التقليدي الذي يقرأ جـريـدة الصباح ,ويرتشف كوب القهوة في لحظات هادئة يتابع فيها أخبار العالم اليومية عن طريق صحيفته المفضلة .
فذلك المشهد قد اختفى وتلاشى ليحل محل صحيفة الصباح فضاءات التكنولوجيا الإخبارية, وليصبح كوب القهوة مجرد شعار للمقاهي الإلكترونية .
ما إن خبا حماس العالم تجاه (الاقتصاد الرقمي) وإدارة الأموال من خلف الشاشات ؛ حتى ولج مرحلة ( السياسة الرقمية ) فأصبح الرأي العام يساهم في إدارة السياسات الدولية من خلف الشاشات ويُسقط رموز ويصنع آخرين، فدخلت المعلومة - بالصوت والصورة - في مواجهة وتحدي أمام الآليات العسكرية حتى انتصرت. وانتهى على يدها عصر الديكتاتورية السياسية، كما انتهى عصر الديكتاتورية الإعلامية المظللة التي كانت ثقافة الشعوب تحت وصايتها. فأصبحت أصداء آهات المظلومين وصرخاتهم تهز كل مكان في العالم وتدك صروح الديكتاتوريات .
فلم تكن هذه الصيحة التي ترددت في جنبات درعا :(يآآآآآخونة !!! .. في حدآآ يقتل شعبه ؟؟!!) سوى زئير مزمجر أطلقه أحد أسود سوريا بكل ألم .. وبصوت متقطع من أثر حشرجة الأسى... وشيء من الرعب .. حينما رأى الموت عياناً يلوح له من بين ألسنة اللهب وزخات الرصاص ؛ فضجت أصداؤها في أرجاء العالم، بعكس تلك الصيحات والنداءات التي أُطلقت من مدينة حماة قبل ثلاثين عاما ولكنها لم تغادر حناجر مطلقيها !
تسببت ثورة التكنولوجيا الهائلة في هزات سياسية للعالم بأسره , أدت إلى تحولات عميقة على مستويات عده من أهمها تبادل المعلومة وتصدير الأفكار واستيرادها وحوار الثقافات أو صدامها فأحدثت بذلك تغيرات حادة بمعدلات متسارعة في الأهداف والقيم ، حتى انهارت كثير من الحواجز التاريخية والثقافية الراسخة , وتلاشت الحدود والفواصل وانتهى زمن الجغرافيا , فأصبحنا نعيش في عالم متداخل متماهٍ تجمعه بعض الأهداف والقواسم المشتركة .وبمجرد أن نلقي نظره سريعة على واقع مشرقنا الإسلامي؛ فإننا سنكتشف أنه قد تحول إلى لوحة بديعة من الفسيفساء تجمعها رسمه واحدة وإن تعددت فيها الرؤى والتفصيلات .
ففي زمن الثراء المعلوماتي والكم المعرفي والإخباري الهائل المتدفـق على مدار الدقيقة والثانية , إضافة إلى المشاهد المبـاشرة من قلب الحـدث، قُلبت موازين العـالم وخُلقت سلـطة جديـدة هي: (سلطة الإعلام ) التي تضاءل أمامها الجبروت السياسي حتى ألقت به في براثن شبكتها العنكبوتية .
لكن ومع كل هذا فإننا لم نزل نعاني من (الإعلام العربي المأزوم)؛ فقنواته الفضائية بريئة من الحياد كبراءة الذئب من دم يوسف, وبالرغم من وجود إحدى القنوات التي تحتل الصدارة في مجال تخصصها, إلا أنها لم تكن على الدوام على مستوى تطلع المواطن العربي ؛ فقد خذلته في أحيان كثيرة كان ينتظر نصرتها. فأجندة تلك القناة لم تكن تؤهلها لأن تكون محايدة فلم تستطع أن تمسك بالعصا من الوسط ولا أن تأخذ بزمام الأمور في تلك الظروف الصعبة ؛ إلى درجة أنها آثرت انسحابها من ثورات لا تقل أهمية عن سابقاتها, بل إنها كانت في أمسّ الحاجة لدعمها الإعلامي, لكنها ولأجل مصالحها الخاصة فإنها قد أغمضت عدستها قصداً عن أحداث يشيب لها الرأس من مآسي العالم الإسلامي ,حتى أثارت بذلك استياء الرأي العربي العام الذي أعتبر أن تلك التصرفات ليست سوى أحد أشكال الخذلان العربي المقيت . فالإعلام هو نصف الثورة , ونصف الحدث, ونصف الحرب؛ بل هو الحرب الباردة التي كانت ولازالت القوى الكبرى تستخدمها كسلاح فتاك مأمون وسريع العواقب.
ومع كثرة القنوات الفضائية العربية إلا أن الرأي العام العربي لا يزال متعطشاً إلى قناة حرة محايدة تشفي غليلة وتزوده بكامل الأخبار وصحيحها؛ فقد مل من الأخبار المتجزئة التي لا تخدم إلا وجهة نظر ناقلها.
فإذا كنا قد عدمنا القوة السياسية والعسكرية التي تضمن لنا حقوقنا ومكانتنا في المجتمع الدولي، فلا زلنا نستطيع أن نمتلك تلك القوة الإعلامية التي لا يستهان، فلماذا لا نسخر تلك القوة لصالحنا خاصة أننا نمتلك كل المقومات التي تؤهلنا لذلك، فنبتعد عن هيمنة الغرب وسيطرته وتحكمه في المعلومة التي تصل إلينا.
ومن هنا فإني أدعو المخلصين من المقتدرين في عالمنا العربي بأن ينشئوا قنوات إخبارية حرة يكون شعارها الصدق والحياد والشفافية، فتتعامل مع الحدث بموضوعية بعيداً عن المصالح الخاصة، ويكون همها في ذات الوقت مصلحة العالم العربي عامة ,لا مصلحة دولة بعينها.
وكما استطاع العرب أن ينشئوا الكثير من القنوات الفضائحية التي يعج بها مجالنا الفضائي , فإنه بالتأكيد بإمكانهم أن ينشئوا قنوات فضائية سياسية متزنة يقوم عليها نخبة من السياسيين والمفكرين، لنستخدمها كقوة نستطيع أن نحقق بها استقلالنا السياسي والمعلوماتي بدلاً من أن نتسول القنوات غير النزيهة كي تقف في صفنا وتنقل صوتنا للعالم .
إن كان القرن الميلادي الماضي هو قرن القوة العسكرية، فإن هذا القرن هو قرن القوة الإعلامية؛ فقد أضحت فيه صورة الصحفي وهو ينصب حامل كاميرته على الرمال ليحدد الهدف الذي سيسجله للتاريخ وليطلقه كقذيفة للعالم أجمع، أكثر قوة وتأثيراً من صورة الجندي الذي يقف خلف مدفعه في الصحراء ليطلق قذائفه البارودية المدمرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: مجلة البيان: 285