من أخطر الأمراض التي يتعرض لها المسلم في سيره إلى الله أن يرضى عن نفسه، ويرى كمالها، ويغفل عن عيوبها.
ومن أعظم علامات رضى الله عن العبد وإرادة الخير به أن يوجهه للاعتناء بنفسه، والبحث عن عيوبها، والتنقيب عن قصورها، ثم الانشغال بمحاولة إصلاحها، والحرص على تزكيتها.. فـ {قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها}(الشمس: ).
وكم هو قبيح أن يجهل الواحد منا عيوبه ونقائصه، أو يعرفها وينساها أو يتناسها، أو يتغافل عنها، أو يصغرها وهي كبيرة، أو يحقرها وهي خطيرة.. ثم بعد ذلك هو ينبش في عيوب إخوانه، ويدقق فيها، ويعظمها وهي حقيرة، ويضخمها وهي صغيرة.. وهذا مسلك حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم حين قال في حديث أبي هريرة الذي رواه البخاري في الأدب المفرد: [يبصر أحدكم القذاة في عين أخيه، ولا يرى الجذع في عينه] أي في عين نفسه.. وهذا عمل من القبح بمكان:
قبيح على الإنسـان ينسى عيوبه .. .. ويبصر عيبا في أخيه قد اختفى
ولو كان ذا عقل لما عاب غيره .. .. وفيه عيوب لو رآهــا قـد اكتفى
دلائل وعواقب
إن الانشغال بعيوب الناس أمر له دلائل وعواقب:
فأول دلائله: جهل صاحبه بطبيعة الخلق وبحقيقة الإصلاح:
فأما جهله بطبيعة الإصلاح؛ فلأن مبدأ الإصلاح أن يصلح الإنسان نفسه قبل الذهاب إلى إصلاح غيره، وقد قال سبحانه: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}، وقال: {كل نفس بما كسبت رهينة}، وقال: {قوا أنفسكم وأهليكم نارا}. فبدأ بالنفس حتى قبل الأهل والولد.
وأما جهله بطبيعة الخلق: فلأن الناس من حولنا بشر مثلنا، وطبيعة البشر أنهم يصيبون ويخطئون، ويحسنون ويسيئون، ولا يخلو إنسان من نقص وعيب وذنب وخطيئة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: [كل ابن آدم خطاء]، وقال: [والله لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون الله فيغفر لهم].
وإنما يُذكَّر الإنسان وينصح، ولا يُـشهَّر به ويفضح، والتذكير والنصح إنما مقصوده أن يرجع العبد عن ذنبه ويؤوب، وأن يستغفر ربه وينيب إليه ويتوب؛ فإن فعل كان من خير الخطائين فإن [خير الخطائين التوابون].
الدلالة الثانية: الغفلة عن النفس وعيوبها:
فلو اهتم الإنسان بإصلاح نفسه لشغله ذلك عن عيوب غيره:
قيل للربيع بن خثيم: ما لنا لا نراك تعيب أحداً؟
قال: لست عن نفسي راضياً فأتفرغ لذم الناس، وأنشد:
لنفسي أبكي لست أبكي لغيرها... لنفسي في نفسي عن الناس شاغل
وقال عبد الله بن عون: "لا أحسب الرجل ينظر في عيوب الناس إلا من غفلة غفلها عن نفسه".
الدلالة الثالثة: حقارة النفس ودناءتها:
فالمنقب عن عيوب الناس لا تقع عينه إلا على القبيح ، ولا تميل نفسه إلا إلى العيب والنقص.. يترك الحسنات ويبحث عن السيئات، ويتغافل عن المزايا، ويتلقف العيوب، ويسكت عن الكمالات ولا ينطق إلا بالنقائص، ولا يرى في الناس إلا أسوأ ما فيهم: حاله كحال الغراب، لا يقع إلا على الجيف، أو كحال الذباب لا تراه واقفا إلا على المزابل والقذر، أو كحال صاحب كلب الغنم.. فقد روي في سنن ابن ماجه بسند ضعيف عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [مثل الذي يجلس يسمع الحكمة ثم لا يحدث عن صاحبه إلا بشر ما يسمع كمثل رجل أتى راعيا فقال: يا راعي أجزرني شاة من غنمك .قال: اذهب فخذ بأذن خيرها. فذهب فأخذ بأذن كلب الغنم).
نفس حقيرة دنيئة لا يناسبها إلا السوء والشر، عجزت عن مجاراة الناس في المعالي فانشغلت بتحطيم الآخرين لتصعد على أنقاضهم.
يقول أبو عاصم النبيل رحمه الله: "لا يذكر الناس بما يكرهون إلا سفلة لا دين لهم".
الدلالة الرابعة: كثرة عيوبه ونقائصه:
فلولا ما عنده من العيوب لما سعى في إظهار عيوب الناس.. من باب ودت الزانية أن لو زنت كل حرة حتى لا تعير بفجورها.
قال محمد بن سيرين: "كنا نتحدث أن أكثر الناس خطايا أفرغهم لذكر خطايا الناس".
رابعا: مكر الله به:
فلوا أراد الله به خيرا لشغله بما يصلحه وبما ينفعه في دينه ودنياه.. ولكنه شغل بما يعود عليه بأعظم الفساد والضرر في الدين والدنيا:
قال بكر بن عبد الله: "إذا رأيتم الرجل موكلا بعيوب الناس ناسيا لعيوبه فاعلموا أنه قد مكر به".
عواقب وخيمة :
وأما عواقب الانشغال عن عيوب النفس بعيوب الناس فمنها:
أولا: الإثم والذنب:
فلا شك أن التنقيب عن عيوب الناس نقص وعيب، وذنب وخطيئة، يلحق بفاعله الإثم والذم: قال مالك بن دينار: كفى بالمرء إثما ألا يكون صالحا، ثم يجلس في المجالس ويقع في عرض الصالحين.
ويزداد الإثم حينما يرتبط بالعلماء والدعاة والصالحين، فإن في تنقيصهم نقض للدين، وفي عيبهم والاستهزاء بهم هدم للملة والدعوة.. وقد قال ابن المبارك رحمه الله: "من استخف بالأمراء ضاعت دنياه، ومن استخف بالعلماء ضاع دينه". وكلمات ابن عساكر في هذا الباب لا تخفى على ذي عقل وبصيرة.
ثانيا: التجسس على الناس:
فبحثه عن معايب الخلق يحمله على التجسس عليهم ليعرف عيوبهم، ويطلع على عوراتهم، أو ليثبت صحة ما رماهم به من العيب والنقص؛ وقد نهى الله المؤمنين عن إساءة الظن بإخوانهم مما يحملهم على التجسس ثم نهاهم عن التجسس فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا}(الحجرات:12)، وكذا قال رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثالثا: الوقوع في غيبة الناس:
فذكر الناس بما يكرهون هو عين الغيبة، وإن كان ما تقوله فيهم حقا، كما جاء في تعريف الحديث لها: [أتدرون ما الغيبةُ؟ قالوا: اللهُ ورسولُه أعلمُ. قال: ذكرُكَ أخاكَ بما يكرهُ، قيل: أفرأيتَ إن كان في أخي ما أقولُ؟ قال: إن كان فيه ما تقولُ، فقد اغتبتَه. وإن لم يكنْ فيه، فقد بهتَّه](رواه مسلم)
وقد حذر الله المسلمين من الولوغ في أعراض الناس وغيبتهم فقال: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ}(الحجرات:12).
وقال عليه الصلاة والسلام: [كلُّ المسلمِ على المسلمِ حرامٌ، عِرضُه، ومالُه، ودمُه، التقوى هاهنا ـ وأشار إلى القلبِ ـ بحسْبِ امريءٍ من الشرِّ أن يحقِرَ أخاه المسلمَ](رواه مسلم وغيره).
رابعا: الإفلاس يوم الحساب:
كما جاء في حديث المفلس الذي رواه {أتدرون ما المفلِسُ؟ قالوا: المفلِسُ فينا من لا درهمَ له ولا متاعَ. فقال: إنَّ المفلسَ من أمَّتي، يأتي يومَ القيامةِ بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مالَ هذا، وسفك دمَ هذا، وضرب هذا. فيُعطَى هذا من حسناتِه وهذا من حسناتِه. فإن فَنِيَتْ حسناتُه قبل أن يقضيَ ما عليه، أخذ من خطاياهم فطُرِحت عليه ثمَّ طُرِح في النَّارِ}(رواه مسلم).
خامسا: شيوع المنكر وتجرئ الناس عليه:
فإن كثرة ذكر المنكر والتحدث به يؤدي إلى شيوعه بين الناس وتعود أسماع العباد عليه، ورفع هيبة الوقوع فيه من قلوبهم، ثم هو يجرئ صاحب الذنب على ذنبه طالما أن الناس يقعون فيه فليس هو فقط الذي يفعل، وقد قال تعالى: {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة}(النور:19)
سادسا: شيوع العداوة والبغضاء في المجتمع
فالقلوب تنفر ممن يعيبها، ويشهر بها ويسيئ إليها وينتقصها، وتبغض من يذكرها بما تكره بين الناس، أو يفشي سرها ويظهر عوارها.. وهذه النفرة تؤدي لانتشار الكراهية في المجتمع المسلم وبين أفراده، وإلى القطيعة والتدابر والتنافر والتناحر بما يعود على المجتمع بالسلب والشر.
سابعا: الفضيحة وانهتاك الستر
فالجزاء من جنس العمل؛ فمن عاب الناس عابوه، ومن بحث عن عيوبهم بحثوا عن عيوبه، ومن وقع في أعراضهم وقعوا في عرضه ومن أطلق لسانه فيهم ولو بالحق تكلموا فيه بالحق والباطل:
إذا أنت عبت الناس عابوا وأكثروا .. عليك وأبدوا منك ما كان يستر
ومن هتك ستر الخلق هتك الله ستره وفضحه ولو في قعر بيته:
لا تكشفن مساوي الناس ما ستروا .. فيكشف الله سترا من مساويكا
وفي الحديث عن أبي بردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: [يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان في قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوارتهم، فإنه من اتبع عوراتهم، تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه في بيته](رواه أحمد وأبو داود).
وفي النهاية لا نملك إلا أن نذكر أنفسنا وإخواننا بما قاله الإمام الشافعي رحمه الله تعالى:
إذا شئت أن تحــيا سليماً من الأذى .. ودينك موفــور وعرضك صيّن
لســانك لا تذكر به عــورة امـــرئ .. فكـلّـك عـورات وللـنـاس ألســن
وعينــك إن أبـــدت إليـــك معـــايبـاً .. فدعها وقل: يا عين للناس أعينُ
وعاشر بمعروف وسامح من اعتدى .. وفارق ولكن بالتي هي أحسنُ
اللهم اشغلنا بك عن أنفسنا، واشغلنا بعيوبنا عن عيوب الناس.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.