المأزق الاستراتيجي "الإسرائيلي" الراهن الخاص بالانقسام بين خياري القبول بالتهدئة مع "حماس" وغيرها من منظمات المقاومة في قطاع غزة أو اعتماد سياسة شن هجمات عسكرية قوية على غرار العدوان الذي شنته القوات "الإسرائيلية" على القطاع (ديسمبر/ كانون الأول 2008 يناير/ كانون الثاني 2009) يكاد يتحول إلى "مأزق تاريخي" في ظل ما يدرك الآن من تراجع أو تآكل في "المناعة القومية" للكيان، وما تعنيه هذه المناعة من عدم قدرة على مواجهة التحديات وخوض الصراعات والحفاظ على الأمن والاستقرار بدافعية تلقائية للأفراد.
فكما أن "الشرعية السياسية" للنظام الحاكم، أي نظام حاكم، تقاس بالرضا والقبول الطوعي من جانب الأفراد لذلك النظام وسياساته وخياراته واستراتيجياته، فإن المناعة القومية هي القبول الطوعي أيضاً للأفراد للدفاع عن الدولة والمجتمع والتماسك حول السياسات الوطنية، وامتلاك الدولة ومؤسساتها القدرة على الصمود أمام التحديات وخوض الصراعات دفاعاً عن الأمن الوطني وتحقيق الاستقرار.
يبدو أن هذا كله في حالة تراجع بفعل أسباب ومتغيرات كثيرة، منها أن الدولة الصهيونية لم تعد قادرة على "الإبهار" ولم تعد حلماً يراود الأجيال الجديدة من الشباب، وباتت عاجزة عن توفير الإغراء الكافي لتشجيع قدوم موجات جديدة من الهجرة إليها، ومنها تفاقم الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في ظل تنامي مظاهر التمييز والفساد داخل المجتمع على المستويات العليا والدنيا.
لكن إلى جانب ذلك هناك ثلاثة أسباب أخرى حديثة ومتزامنة، أولها سقوط نظام الرئيس حسني مبارك في مصر الذي تتكشف حقائق علاقاته وتحالفاته مع الكيان يوماً بعد يوم، وكيف أنه استطاع أن يجعل من مصر "حضن أمان" للكيان، وأن يوفر غطاء التسويق السياسي وإجهاض خيار المقاومة أمام الشعب الفلسطيني. سقوط نظام مبارك يعد بمنزلة نذير شؤم للكيان بسقوط تحالفاته مع أطراف عربية وإقليمية وتفكك ما سمي ب"محور الاعتدال"، وبحدوث هذا كله يجد الكيان نفسه أمام اختفاء أحد أهم رهانات بقائه وهو تفكك الموقف العربي واختراقه. ما حدث بالثورة المصرية يمكن أن يكون مجرد بدايات إذا ما اتسعت موجة الثورة العربية وامتدت إلى مناطق أخرى من الجسد العربي قد يستعيد معها هذا الجسد تماسكه وعافيته وامتلاكه القدرة مجدداً على طرح بدائل لاستراتيجية السلام المتداعية.
ثاني هذه الأسباب، مؤشرات المصالحة الفلسطينية الحالية، والتوافق الوطني على الذهاب إلى الأمم المتحدة للحصول من الجمعية العامة على تأييد إعلان قيام الدولة الفلسطينية في سبتمبر/ أيلول المقبل.
أما السبب الثالث وهو الأهم بالنسبة ل"الإسرائيليين"، فهو أزمة الثقة المتصاعدة في العلاقة بين رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو والرئيس الأمريكي باراك أوباما بسبب توجه الأخير إلى دعم الاعتراف الدولي بدولة فلسطين.
هذه التطورات الثلاثة تدفع نحو "نزع الشرعية الدولية" عن الكيان، حسب تعبير عاموسى جلعاد رئيس الطاقم السياسي الأمني في وزارة الحرب "الإسرائيلية" والتي يعتبرها توازي "إعلان حرب وجود على "إسرائيل"".
كيف يمكن الخروج من هذا "المأزق التاريخي"؟
هناك ثلاثة خيارات أساسية بهذا الخصوص مطلوب الوعي لها عربياً.
أول هذه الخيارات هو سياسة الضربة الوقائية العسكرية لقطاع غزة بهدف إرباك كل الحسابات لدى الأطراف الفلسطينية والعربية والدولية، وخلق أزمة لصرف الأنظار عن جهود المصالحة الوطنية الفلسطينية أولاً، وعن التوجه نحو الأمم المتحدة لإعلان الدولة الفلسطينية ثانياً، لكن هذا الخيار شديد الخطورة في هذا الوقت بالذات، وقد يصعب على الكيان تحمل عواقبه وتداعياته.
ثاني هذه الخيارات هو القيام بانسحاب تكتيكي من الضفة الغربية وفق سيناريو "الدولة الفلسطينية المؤقتة" الذي سبق أن دعا إليه شاؤول موفاز رئيس الأركان الأسبق، أو وفق المبادرة غير الرسمية التي تقدمت بها حديثاً 40 شخصية "إسرائيلية" بينها رؤساء سابقون لأجهزة الأمن ومنهم رئيس الموساد السابق داني باتوم، ورئيس جهاز "الشاباك" السابق يعقوب بيري، ورئيس الأركان الأسبق أمنون ليفيكن شاحاك، وتتلخص في إقامة دولة فلسطينية على معظم الأراضي المحتلة عام 1967 مع تبادل في الأراضي بحدود لا تزيد على 7%، والهدف هو إخراج "إسرائيل" من عزلتها وأزمتها.
أما الخيار الثالث فهو الخيار الدبلوماسي سواء بالتحرك للدعوة لتجديد استئناف المفاوضات مع السلطة الفلسطينية أو بإجهاض التوجه الفلسطيني لإعلان الدولة الفلسطينية بضغوط تمارس ضد الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
خيارات ثلاثة مكشوفة، لكنها، ومن دون أدوار فلسطينية وعربية ودولية يمكن أن تحقق نجاحات.
ــــــــــــــــــــــــــ
الخليج الإماراتية