ازدهرت الحركات الباطنية نتيجةً للمذهبية والركود اللذين ضربا الفكر الإسلامي السُّني ومؤسساته، ونتيجةً للمظالم الاجتماعية والاقتصادية التي كانت تمارسها السلطات القائمة وقتئذٍ.
وكان المناخ مناسباً لهذه الحركات لتنفث سمومها في عصر ضعف الخلافة العباسية؛ حيث سقطت هيبة المسلمين، واستشرت الأدواء الفكرية الخبيثة لهذه الحركات السرية الهدامة، وتعرَّض سلاطين المسلمين ووزراؤهم وقادتهم العسكريون وعلماؤهم للاغتيال وهم على أسرَّتهم، إلى غير ذلك من الظواهر المفجعة التي امتلأت بها كتب التاريخ قاطبة، وكانت أكبر عوامل نجاح الحملات الصليبية والمغولية.
وجدير بالذكر أن الفكر الباطني في الأصل هو حَلْقة في سلسلة المحاولات التي قامت بها سلالات الأرستقراطيات الفارسية التي فقدت امتيازاتها بانهيار حكم الأكاسرة، وهي ترمي إلى استعادة ذلك المجد الغابر.
ولتحقيق هذا الهدف لجأتْ إلى أساليب وشعارات جديدة، تتفق مع المنعطف العقائدي والحضاري الذي تحوَّل إليه الشعب الفارسي بعد الفتوحات الإسلامية. وهذه الأساليب الجديدة تتجلى في الشعوبية والباطنية والتشيُّع الغالي، وإحياء اللغة الفارسية.
على أن بداية ظهور الفكر الباطني كانت في القرن الثاني الهجري، ثم نشطت الحركات الباطنية في القرن الرابع الهجري وما تلاه؛ حيث ضمَّت بين صفوفها جماعات مختلفة، يجمعها هدف مشترك؛ هو إفساد العقيدة الإسلامية وتدمير المؤسسات العلمية والحكومية السُّنية التي تمثل هذه العقيدة؛ فقد ضمَّت فلاسفة ومفكرين كإخوان الصفا، وشعراء أيضا ينسبون إليهم أبا العلاء المعري والتوحيدي. كما أفرزت دولاً كالعبيديين والصفويين، وحركات كالقرامطة والحشاشين.
ولا نبالغ حين نقول بأن من الفرق الخطيرة جداً التي ابتليت بها الأمة الإسلامية عبر تاريخها المديد وإلى يوم الناس هذا - إن لم تكن هي أخطر الفرق على الإطلاق - الفرق الباطنية بمختلف أطيافها.
ولا نشك لحظة واحدة بأن هذه الطوائف الخارجة عن الدين وتحمل فكراً متناقضاً مضطرباً هداماً، هي طوائف مخذولة وفئات مرذولة، وهي مأوى لكل من أراد هدم الإسلام، بل كانت في بعض مراحل التاريخ الإسلامي عوناً للصليبيين والوثنيين التتار الذين جاؤوا لغزو المسلمين في عُقر دارهم.
والمعروف عن الفرق الباطنية تدبير المؤامرات وتهييج الفتن وحَبْك الدسائس في طول البلاد وعرضها. وقد ابتلي أهل السُّنة خاصة بها بلاءً عظيماً. وكانت أفكارها وأفعالها عبر التاريخ الإسلامي شاهدة على زيغها وضلالها وسوء اعتقادها. وأسست دولاً في المغرب والمشرق الإسلاميَّين سامت خلالها المسلمين صنوف الاضطهاد والتنكيل؛ بفرض الأفكار الدخيلة والبدع عليهم وتفضيل النصارى، ومصادرة أموالهم، واستباحة دمائهم، كدولة العبيديين في بلاد المغرب والدولة الصفوية في بلاد فارس.
كما قامت حركتا (القرامطة والحشاشين) بكثير من الغارات وأعمال السلب والنهب وترويع الآمنين وقتل الأبرياء. وظهرت من بين هذه الفرق جماعة إخوان الصفا التي لبست لَبُوس العلم لخداع الناشئة وعوام المسلمين والتلبيس عليهم، فنشرت بينهم الفكر الوثني الفلسفي باسم الحكمة.
وفي العصر الحديث برزت كيانات سياسية من هذه الفرق كالنصيرية والدروز، مكَّن لها الاستعمار الغربي واستعملها كوسيلة لإضعاف كيان الإسلام من الداخل، وعرقلة جهود المسلمين في الوحدة والبناء والتنمية.
وعندما نمعن النظر في أسلوب عمل هذه الفرق جميعاً، نلاحظ أن القواسم المشتركة بينها كثيرة، ومقاطع الاتفاق بينها جلية، كأنها تسير على منهاج واحد.
ومن خصائص هذا المنهاج:
• السرية والتكتم في حالة الاستضعاف، وعند الظهور والغلبة ينادون بآرائهم جهاراً ويعلنون ما كانوا يخفون. كما كان المستجيب لهم المنضوي تحت لوائهم لا يعرف شيئاً عن الدرجة التي تلي درجته، ولا يعرف أصحابَ الرتب الأخرى في الدعوة.
• الاستدراج والحيلة: فهم يُظهرون الإسلام، وحبَّ آل البيت، والعفاف والتقشف، وترك الدنيا، والإعراض عن الشهوات؛ وذلك لاستمالة الناس إليهم. ويخاطبون كل فريق بما يوافق رأيه بعد أن يظفروا منه بالانقياد والموالاة لهم. ويتوسل دعاتهم بوسائل وحيل كثيرة لاصطياد الأتباع، وهي: التفرس، والتأنيس، والتشكيك، والتعليق، والربط، والتدليس، والتلبيس، والخلع، والسلخ.
• انتهاز الفرص: وذلك باستغلال ظروف الناس المعيشية المتدنية وعواطفهم الملتهبة للإصلاح، برفع شعارات براقة، واتخاذ الدين مطية لبلوغ أهدافهم.
• التلبيس على العوام: بطرح أسئلة محيرة عليهم، ثم إشعارهم بأنهم في حاجة إلى التسليم وقبول كلِّ ما يعرض عليهم؛ لأنهم كالطفل يغذى باللبن، ثم بعد ذلك بما أقوى منه.
• التدرج والمرحلية: باعتماد أسلوب التدرج في بث الفكرة والتلطف في عرضها على الناس؛ ففي المرحلة الأولى ينادون بالتشيع لآل البيت، وفي مرحلة ثانية يقولون بالرجعة والعصمة والتقية، وفي مرحلة ثالثة يقولون ببطلان ما عليه أهل ملَّة الإسلام. كما كانت التعاليم تُعطَى للمستجيبين على شكل خطوات مرحلية تتدرج من المبادئ البسيطة إلى التأويلات الفاسدة التي يراد منها إبطال أصول الإسلام وأحكامه.
• التخطيط: وخططهم تدل على دهاء وخبث، وحنكة وذكاء في الأمور السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ومعرفةٍ بنفسية الناس، وظروفهم وبيئاتهم؛ فقد كانوا يختارون بدقة الزمان والمكان والأشخاص لتنفيذ خططهم.
• الاهتمام بالمراكز والخلايا والحلقات: وذلك لاستقطاب الأتباع والأنصار لدعوتهم، وتكوين التلاميذ الذين يُلقَّنون تعاليم الدعوة.
• غربلة المعلومات: وذلك بتعيين مخبرين تنحصر مهمتهم بنقل أسرار الدولة الحاكمة ومعلومات عن حكام الأقاليم وأخبار المجتمع السُّني إلى مركز الدعوة الرئيسي؛ ليُصَار إلى دراستها وغربلتها واستغلال خيرها وشرها لمصلحتهم.
• التراتبية والنظام: فالدعوة مراتب ودرجات وذات مستويات تصعد من القاعدة إلى القمة؛ ولذلك فهي أربع مراتب عند إخوان الصفا وسبع مراتب عند الحشاشين.
ضرورة هتك أستارهم
وبالجملة، فإن كشف عقائد هذه الفرق الهدامة وأساليبها التنظيمية لَحَريٌّ بهتك سترها وكشف حقيقتها أمام أعين المسلمين حتى لا يُخدَعوا بما يروِّجه تلاميذ المستشرقين من المؤرخين العَلمانيين والباطنية المعاصرين الذين يلقِّنون تاريخ القرامطة والعبيديين (الفاطميين) والحشاشين والصفويين، وفكر إخوان الصفا للنشئ الجديد على أنه تاريخ يُعتَز به، ومَثَلٌ يفتخر به، تأسيّاً بالمدارس الغربية التي تُعلِي من قيمة هذه الفرق المارقة، التي تجتمع معها على شيء واحد؛ وهو محاربة الإسلام وإفساد عقائده وتهميش شرائعه.
كذلك ينبغي الحذر من محاولة دعاة الباطنية في عصرنا هذا نشرَ أفكار هذه الفرق الهدامة بأسلوب ماكر ودهاء خبيث باعتبارها من كتب التراث، والترويج لهذه الفرق على أنها كانت تنشد العدل الاجتماعي والحرية والمساواة، وتشويه الحقائق التاريخية، واستعمال الإسقاط التاريخي، كما هو حاصل في كتب أفراد هذه الطوائف المعاصرين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
محمد أمحزون ـ البيان 277