تحتل الفتوى مكانة سامية في دراسات الفقه الإسلامي باعتبارها تمثل الاجتهاد الشرعي بتضافر عاملي الدليل النقلي والاجتهاد العقلي لتنزيل حكم شرعي على واقعة معينة، مما يمنح الوقائع انسجاماً مع الخط النظري لأحكام الشريعة الإسلامية، ويمنح الأحكام خاصية المرونة والتجدد.
غير أن الفتوى ترتفع إلى مستوى الوثيقة التاريخية في مرحلة لاحقة عندما تأخذ مكانها الخاص ضمن سلسلة الأنشطة الثقافية والسياسية والاجتماعية التي يمارسها المجتمع الإسلامي، وتتحول بذلك إلى وثيقة متعددة الاستخدامات، يجد فيها الفقيه والقاضي زادا للاستدلال والقياس، ويجد فيها المؤرخ أوجهاً للاستشهاد والإثبات، كما تمنح عالم الاجتماع ميدانا لمقاربة الأوضاع العامة للشعب والمجال الذي أنتج الفتوى.
ومن هذا المنطلق يقدم الباحث الموريتاني الدكتور يحيى ولد البراء موسوعته الفقهية الكبرى التي حملت اسم "المجموعة الكبرى الشاملة لفتاوى ونوازل وأحكام أهل غرب وجنوب غرب الصحراء".
الخطوات والمنهج
يقول ولد البراء إنه أودع في موسوعته ما تيسر من فتاوى ونوازل وأحكام علماء أهل غرب الصحراء الكبرى ومنطقة الساحل، مما يعسر وجوده مجتمعا بل وجوده على الإطلاق نظرا لتشتته بين المكتبات الخاصة وتناثره داخل الكراريس والمجامع، ونظرا أيضا لإبهام محاله ومظناته وانطماس أكثر نصوصه وامحائها.
لكن جمع تلك النصوص الكثيرة لم يتم بين عشية وضحاها، فقد استغرق نحو ربع قرن من الزمن، قام خلاله المؤلف بعمليات بحث متقصية لجمع هذه النصوص، "تنقيبا وفرزا للمكتبات الخصوصية المهجورة، وفحصا للمظان غير المتوقعة، واستماعا للأشخاص من أهل العلم أو الإلمام بالموضوع، وجاب في سبيل ذلك أغلب مناطق المجال المدروس وأكثر المدن والقرى والأحياء الموجودة داخله".
ولأن العمل موسوعي بالأساس، فقد توجه -بحسب المؤلف- إلى نمطين من الاستقصاء: "أحدهما جرد كمي حرصنا فيه أن نستوعب ما أمكن وجوده من فتاوى الفقهاء الذين بقيت آثارهم، فلم تلعب بها أيدي الحدثان أو استطعنا الحصول عليها. والآخر جرد كيفي أعطينا فيه نموذجا أو نماذج من فتاوى أولئك الفقهاء ممن اندثرت آثارهم نهائيا أو لم نتمكن من الوقوف عليها تدقيقا".
وتضمن أيضا نصوصا لعلماء متقدمين من أهل القرنين العاشر والحادي عشر، وهو جهد -كما يقول المؤلف- لم يكن بسيطا "لانبهام تلك النصوص غالبا وانطماسها وخرمها إذا وجدت". كما هو الحال بالنسبة لإخراج نصوص لعلماء مجهولين لم يعد لهم اليوم ذكر حتى بين عشائرهم الأقربين، مما يجعلهم في عداد المنسيين أو من طبقات أهل العلم غير النابهين، "وإن كان النقد الباطني لنصوصهم القليلة التي أوردنا يظهر أنهم كانوا في عصرهم على درجة من علو الكعب في العلم والتمكن من صناعة الفتوى رفيعة المستوى".
وفيما يخص التبويب فقد كان أمام المؤلف عدة اختيارات منهجية لتبويب المدونة وتصنيفها: منها الخيار التاريخي الذي يعتمد على الترتيب على أساس التقدم في الزمان، ومنها الخيار الجغرافي الذي يرتكز على الترتيب بحسب المناطق والجهات والجيوب الثقافية الخاصة، ومنها الخيار الألفبائي الذي يعمد إلى الترتيب بحسب تسلسل حروف الهجاء.
غير أنه آثر في الأخير خيارا آخر هو التصنيف التقليدي الذي درج عليه الفقهاء المالكية في تمهيد وعرض المادة الفقهية.
ويرجع السبب في ذلك كما يقول إلى أنه يتوجه بهذه المدونة بالأساس إلى نمطين من القراء: المهتمين بالعلوم الشرعية طلبة ومشايخ وحكاما، والدارسين لقضايا المجتمع من باحثين ومخططين.. وكل أولئك يجدون في الترتيب بحسب الموضوعات تسهيلا بالغا لما يريدون من الإفادة من هذا الكتاب.
الأهمية والمضمون
وتتعدد مناحي الأهمية في هذا العمل تبعا لتعدد المجالات التي غطاها سواء في مستوى الكم الهائل من الفتاوى (6620 فتوى) التي استخرجها ولد البراء من رفوف المكتبات المخطوطة في كثير من الحواضر الأفريقية في موريتانيا والسنغال ومالي والجزائر والمغرب، أو في حجم الكتاب (14 مجلدا)، أو الفترة الزمنية التي استغرقها البحث (25 عاما). وبتلك المجالات المتعددة التي يغطيها البحث، مضافا إلى المجال الزمني الذي يمتد لأكثر من خمسة قرون غطتها المدونة، تتحدد أهمية الكتاب.
وتبدأ الفترة الزمنية التي تغطيها الموسوعة من أوائل القرن الهجري العاشر/السادس عشر الميلادي الذي يمثل بدايات المكتوب حسب ما استطاع الباحث العثور عليه من النصوص الفقهية، وتنتهي في العقدين الأولين من القرن الخامس عشر الهجري أي نهاية القرن العشرين.
وتبدأ النصوص الفعلية للكتاب من الجزء الثالث الذي جاء في 760 صفحة مخصصة للعقائد، على طريقة مدوني الفقه الإسلامي في البدء بالفقه الأكبر أو علم العقائد توزعت على أكثر من 242 فتوى، ناقشت جملة القضايا العقدية التي شغلت الأسرة العلمية في منطقة الصحراء، كما تعرضت لمختلف السجالات المتعلقة بقضايا التفويض والتأويل وإشكالات العقيدة المتعددة.
وجاء الجزء الرابع في 754 صفحة توزعت على 313 فتوى تعرضت لتسجيل قضايا أصول الفقه وإشكالاتها الأصولية وتنزيلاتها الفقهية، إضافة إلى فتاوى ناقشت مباحث متعددة في علوم القرآن الكريم وعلوم الحديث، لتجمع من ذلك موسوعة أصولية بالمعنى النصي للكلمة الذي ينظر إلى القرآن والسنة باعتبارهما أصل التشريع ومدار الإفتاء.
وخصص الباحث الجزء الخامس من مجموعته لفتاوى الطهارة والصلاة التي وصلت إلى 760 فتوى توزعت على 740 صفحة ناقشت هذين العنصرين البارزين في حياة المسلم وفي حياة سكان الصحراء بشكل خاص، حيث تطرح إشكالات الماء والصلاة وقضايا متعددة بدءا من التيمم المستشري في مناطق يقل فيها الماء، إلى الصلاة خلف الظَّلَمة وإشكالاتها المتعددة.
أما الجزء السادس من الموسوعة فجاء في 740 صفحة توزعت فيها أحكام الزكاة والصوم والحج في أكثر من 482 فتوى لم تكتف فقط بالمهمة الإفتائية، وإنما قدمت صورا متناسقة عن جوانب من الحياة الاجتماعية وحتى السياسية والاقتصادية، والظروف الأمنية لبيئة الفتاوى التي ناقشت إشكالات الحج والزكاة.
أما الجزء السابع الذي توزع على 601 صفحة شملت 420 فتوى، فكان خاصا بالفتاوى المتعلقة بأبواب المباح والأضحية والأيمان والنذر والجهاد، مقدما جوانب متعددة من الجدل الفقهي الذي دار حول أحكام الجهاد ومداراة الظالمين والعلاقة مع المستعمر، إلى غير ذلك من الإشكالات التي شغلت المفتي في المنطقة المذكورة.
الجزء التاسع حمل 855 فتوى توزعت على 780 صفحة وزعها الباحث على شجرة إفتاء تناولت أحكام البيع والسَلَم والرهن والغرم والحجر والصلح والحوالة والضمان، لتقدم هي الأخرى موسوعة اجتماعية واقتصادية ترفد بكل تأكيد ميدان فقه الأموال في الإسلام بفتاوى أكثرها ظل رهين النسيان قرونا عديدة.
وفي الجزء العاشر جاءت 760 صفحة توزعت على 760 فتوى أغلبها أسطر معدودة، وتخصص هذا الجزء للفتاوى المتعلقة بأبواب الشركة والوكالة والإقرار والاستلحاق والإيداع والعارية والغصب والتعدي والإكراه والاستحقاق والشفعة والمغارسة والإجارة والجعل.
أما الجزء الحادي عشر الذي كان أكبر الأجزاء من حيث عدد الفتاوى التي ناهزت 1026 فتوى توزعت على 701 صفحة، فقد خصصه ولد البراء للفتاوى المتعلقة بأبواب موات الأرض والأوقاف والهبات والصدقات واللقطة والقضاء والشهادات.
وجاء الجزء الثاني عشر في 820 صفحة اشتملت على 781 فتوى خاصة، وهو خاص بفتاوى الجنايات والحدود والردة والحرابة والرق والولاء والوصايا والفرائض والرقائق والاستخدامات.
وتكتمل بذلك فتاوى الموسوعة الكبرى في 6620 فتوى لـ887 مفتيا ينتمون إلى ما يطلق عليه الباحث الصحراء التي تضم موريتانيا والسنغال ومالي وأجزاء كبيرة من الجزائر والمغرب ومنطقة فوتا العليا في غينيا.
جهد إضافي
ولم يترك المؤلف موسوعته غفلا من التقديم والفهرسة، حيث خصص جزأين كبيرين من أجزاء المدونة لما سماه المقدمات التمهيدية، وهو بحث معمق في قضايا المدونة وفي شجرة الفتوى الضخمة التي توزعت على المجلدات العشرة السابقة.
وقد جاء المجلد الأول من الكتاب تعريفا بالمدونة وطرق البحث فيها، إضافة إلى إشكالات الفتوى وقضايا الخلاف، كما مثل قراءة واعية للأثر الاجتماعي والقيمة التاريخية للمدونة ولمجموعات الإفتاء التي تقدمها، متحدثا عن أبرز السياقات والانتماءات المذهبية التي توزعتها المدونة.
وتكشف فهارس المجلد الأول من الموسوعة عن كفاءة بالغة في دراسة الأثر الفقهي للمدونة، حيث يقدم الباحث دراسات دقيقة للأرض وطبيعتها في منطقة الصحراء الكبرى، وعن السكان وبنياتهم ومسالكهم الاجتماعية والثقافية والعرقية، متوقفا بقوة عند بدايات دخول الإسلام وأنماط التدين الإسلامي لدى سكان الصحراء.
واستعرض المؤلف في هذا الجزء كذلك حقبا من تاريخ الفتوح الإسلامية في المنطقة وتجارة القوافل ذات الأثر الكبير في نشر الإسلام بالمنطقة.
وتوقف عند إشكالات التجديد الديني عند حركة المرابطين، قبل أن يتوقف عند ما يسميه فترة الفراغ الوثائقي التي تمتد عدة حقب تلقي بظلال من المجهول على تاريخ المنطقة، قبل أن تبدأ فترة إشعاعها الثقافي.
و يتعرض الباحث لمكانة منصبي الإفتاء والقضاء ومظاهر الخصوص والتلازم بينهما، ليقدم أخيرا دراسة متخصصة في نصوص المدونة وملابسات الظروف والمراحل التي أنتجتها، والعوامل التي أطرت الفتوى ويحددها في ثلاثة هي البيئة والاقتصاد والسياسة.
أما المجلد الثاني من المدونة فقد جاء ليسد فراغا آخر يتعلق بمجال التراجم في موريتانيا والمنطقة بشكل عام، إذ يعتبر في المجال الموريتاني أكبر معلمة للتراجم لحد الآن ترجمت لأكثر من 878 فقيها ومفتيا.
أما المجلدان الأخيران من الموسوعة فقد خصصهما الباحث للفهارس، معتمدا نظاما ترقيميا يسهل للقارئ العودة الدقيقة إلى المفتي وعدد فتاواه وتوزعها في أجزاء المدونة، كما يسهل البحث الموضوعي بشكل سهل وميسور.
وجملة القول إن "المجموعة الكبرى" تمثل بادرة جديدة من بوادر الاكتمال في مدونات الفقه المالكي في منطقة الغرب الإسلامي، وإضافة نوعية إلى مكتبة التاريخ الثقافي لشعوب الصحراء والمغرب العربي، ينتظر أن تساعد في فهم السياق التاريخي للدرس الفقهي في المنطقة وتنير جوانب من تاريخ التحولات الاجتماعية والثقافية في منطقة المدونة.