لو لم تدل الدلائل الشرعية على إثبات البعث بعد الموت لكان في العقل أكبر دليل عليه، فنحن نرى الناس في هذه الحياة يظلم بعضهم بعض، ويعتدي بعضهم على بعض، وفيهم الصالح والفاسد، والمحق والمبطل، ثم يموتون دون جزاء ولا عقاب، فلو لم يكن هناك بعث ولا حياة أخرى لضاع حق المظلوم، ولأفلت الظالم من العقاب، ولمات المحسن دون أن يلقى ثواب إحسانه، والمسيء دون أن يلقى جزاء إساءته .
ولهذا اقتضت حكمة الله تعالى أن يبعث الناس بعد موتهم، ليقضي بينهم فيما كانوا فيه يختلفون، ويقتص للمظلوم ممن ظلمه، ويجازى المحسن على إحسانه، والمسيء على إساءته.
وقد أثبت القرآن عقيدة البعث بأوجه مختلفة، من أهمها الاحتجاج بالبدء على الإعادة، فالذي قدر على خلق الإنسان من عدم قادر على إعادته مرة أخرى من باب أولى، وحين جاء أحد المشركين النبي – صلى الله عليه وسلم - بعظام يطحنها بيده وينثرها في الهواء، وقال: أتزعم يا محمد أن الله يبعث هذه ؟ أجابه النبي – صلى الله عليه وسلم – بكل يقين: نعم يميتك الله تعالى، ثم يبعثك، ثم يحشرك إلى النار، ونزل قول الله تعالى: { وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم } (يس: 78-79) .
وكثيرا ما يتكرر هذا الوجه في القرآن لأهميته، وعدم قدرة الكافرين على منازعته، كقوله تعالى: { ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حياً أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئاً }(مريم : 66 -67 ) وقوله: { أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى }(القيامة: 36- 40) .
كما أثبت القرآن عقيدة البعث بذكر نماذج واقعية ممن ماتوا ثم أحياهم الله بعد موتهم، كقصة الرجل الذي مرّ بقرية قد سقطت جدرانها، وتهاوت سقوفها، ومات عنها أهلها، فقال في نفسه: كيف يحيي الله هذه بعد موتها ؟ فأراد الله بهذا الرجل خيراً، فأماته وأمات حماره مائة عام من الزمان، ثم بعثه، وأراه كيفية بعث حماره، حيث أنبت العظام أولاً وركّب بعضها فوق بعضٍ، ثم كساها لحماً وجلداً، فلما رأى ذلك عظم إيمانه واستقر يقينه .
وقصة أصحاب الكهف، الذين قضى الله عليهم بالنوم مدة تزيد عن ثلاثمائة عام، ثم أيقظهم، لتكون يقظتهم أكبر شاهد على إمكان البعث بعد الموت، قال تعالى:{ وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها }(الكهف:21).
وقصة خليل الله إبراهيم - عليه السلام – عندما طلب من ربه أن يريه عياناً كيف يحيي الموتى، - مع إيمانه ويقينه بذلك - فأوحى الله إليه أن يأخذ أربعة من الطير فيذبحهن ويقطعهن أجزاءاً، ثم يجعل على كل جبل منهن جزءاً، ثم أمره تعالى أن يناديها فإذا كل جزء يعود إلى موضعه حتى إذا تكاملت أتت إليه الطيور مسرعة، قد عادت لها الحياة بأمر الله، قال تعالى: { وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم }(البقرة:260).
وعلام نذهب بعيداً لنروي حكايات السابقين وفي يقظتنا من نومنا صورة مصغرة للبعث بعد الموت، فإن النائم يشبه الميت في غيبته عن العالم وعدم إدراكه لما يدور حوله، فإذا استيقظ عاد إليه الإحساس والشعور، وهكذا الميت عند البعث، قال تعالى: { وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون }(الأنعام:60).
ونحن نرى الأرض وقد أصابها القحط والجفاف فبدت عابسة كالحة، قد اغبرت أشجارها، ويبس نباتها، حتى إذا أنزل الله عليها المطر عادت خضراء يانعة قد أورق شجرها، ونبت زرعها، فسرت برؤيتها كل ناظر، وهذا من أعظم الأدلة على البعث بعد الموت، قال تعالى:{ وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير }(الحج:5-6).
ثم إن من قدر على خلق الكون بسماواته وأرضه، وكواكبه ونجومه، ومجراته، هل يعجز عن إعادة جسد قد بلي وتفتت وذهب في التراب ؟ كلا، فأن القادر على خلق الأعظم لا يعجزه خلق ما دونه، قال تعالى: { أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير }(الأحقاف: 33).
هذه بعض أدلة البعث بعد الموت وهي أدلة غاية في الإقناع، قد جمعت بين الدليل الخبري، والبرهان العقلي، والشاهد الحسي، في أسلوب بليغ يعجز البلغاء عن مجاراته أو اللحاق به، كل ذلك لإثبات هذه العقيدة التي يقوم على إثباتها صلاح الدين والدنيا.