لقد اقترب رمضان جدا فلم يبق عليه إلا أيام معدودات، وهو ضيف سريع الارتحال كما نبه الله تعالى إلى هذا المعنى في قوله تعالى عن الشهر: (أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ...)(البقرة: من الآية184).
وإذا كان الأمر كذلك فحري بالعبد أن يخطط لتحقيق الاستفادة القصوى من هذا الموسم المبارك الذي تعددت فيه أسباب المغفرة والعتق من النار كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ، ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه) رواه البخاري). وقال أيضا: (من قام رمضان ، إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه) رواه البخاري.
وقال صلى الله عليه وسلم مبينا فضل الله تعالى على عباده في رمضان: (إن لله عند كل فطر عتقاء وذلك في كل ليلة) رواه أحمد..
فإذا كانت هذه بعض أسباب المغفرة والعتق من النار في رمضان فينبغي لمن أراد النجاة أن يحدد أهدافه بدقة في رمضان وأن يجتهد لتحقيقها ومحاسبة نفسه عليها، بدلا من السير هكذا بلا هدف كبير يسعى إليه.
ربما يقول بعضنا: إن الهدف هو الفوز برضوان الله تعالى في رمضان والعتق من النار، وهو هدف كبير ونبيل بل هو أكبر الأهداف وأعظمها لكن هنا يثور السؤال: ماذا فعلنا للوصول إلى هذا الهدف الكبير في رمضان؟ هل وضعنا خطة؟ هل وضعنا مجموعة من الأهداف اليسيرة المعينة على تحقيق هذا الهدف الكبير؟.
ونستطيع صياغة السؤال بطريقة أخرى: هل سيمر رمضان علينا هذا العام كما مر غيره في السنوات السابقة؟ أم سيكون متميزا؟.
إن الله تعالى قد امتدح في كتابه الكريم من يسير على نور ودربه واضح، كما عاب على من يسير بغير هدى فقال سبحانه: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (الملك:22).
والعبد في سيره إلى الله تعالى يحتاج النور الرباني والهداية حتى لا يتخبط أويضل: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأنعام:122)
ونحن نتصور أن يحضر كل منا ورقة وقلما ليكتب خطته في رمضان وليضع أهدافا يريد تحقيقها والخروج بها من رمضان، وليس شرطا أن تكون هذه الأهداف تعجيزية بل يمكنه وضع أهداف في متناوله يمكنه القيام بتحقيقها ومحاسبة نفسه على التقصير فيها، ونحن نضرب لذلك بعض الأمثلة اليسيرة.
المحافظة على الجماعة وتكبيرة الإحرام
لا شك أن قطاعا كبيرا من المسلمين قد يتهاون بصلاة الجماعة، ولا شك أن قطاعا أكبر يتهاون بتكبيرة الإحرام، فلماذا لا يكون من أهدافنا في رمضان أن نتعود على المحافظة على تكبيرة الإحرام بحيث لا تقام الصلاة إلا ونحن في الصف خلف الإمام؟ وقد كان بعض السلف رضي الله عنهم لا تفوته تكبيرة الإحرام أربعين سنة ، وبعضهم لا ينادى للصلاة إلا وهو في المسجد. وإذا استحضرنا في هذا المقام قول النبي صلى الله عليه وسلم : (من صلى لله أربعين يوما في جماعة يدرك التكبيرة الأولى، كتب له براءتان: براءة من النار ، وبراءة من النفاق) رواه الترمذي وحسنه الألباني.
فيمكن أن يتخيل العبد نفسه محبوسا أربعين يوما على ذمة هذه القضية، فإما أن يكتب له بعدها البراءة من النار والنفاق أو يعيد الكرة مرة أخرى لعله ينجو.
ختم القرآن في رمضان
لا شك أن كثيرا من المسلمين يختمون القرآن في رمضان، وربما ختمه كثير منهم أيضا عدة مرات في هذا الشهر، ولقراءة القرآن في رمضان شأن كبير إذ هو شهر القرآن: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ)(البقرة: من الآية185).
لكننا أيضا نود أن تكون هناك خطة لختمه في رمضان مرة أو مرات، وبعض الناس حين يسمع أن من السلف من كان يختم في كل ثلاث يتعجب، فإذا علم أن بعضهم كان يختمه في رمضان في كل يوم فربما لم يصدق، مع أن الأمر بالنسبة لمن يخطط ويضع الأهداف ويسعى لتنفيذها ربما كان سهلا ومتصورا.
فمثلا من أراد أن يتم قراءة القران مرة في الشهر فإنه يقرأ جزءا في اليوم، فلو ألزم نفسه بعدم الخروج من المسجد بعد صلاة الصبح إلا بعد الأذكار وقراءة الجزء فسيحقق هذا الهدف، ولو أراد آخر أن يختمه أكثر فيرتب وقته بناء على هذا الهدف.. وخذ مثالا آخر في هذا الشأن، لو أنك ألزمت نفسك بالتواجد في المسجد قبل الأذان في كل صلاة وبعد أداء السنن القبلية جلست تقرأ القرآن حتى الإقامة فلو افترضنا أن الوقت الباقي هو ربع ساعة فيمكنك أن تقرأ نصف جزء يعني في أربع صلوات ـ إذا استثنينا المغرب ـ ستقرأ جزأين؛ وبالتالي ستختم مرتين فإذا عزمت على أكثر من لك وجلست بعد العصر تقرأ جزءا آخر فستختم ثلاث ختمات، فإذا ضممت إليها ختمة الفجر صارت أربعا... وهكذا .
تحسين الأخلاق
لماذا لا يكون من جملة الأهداف التي نضعها لأنفسنا في رمضان أن تتحسن أخلاقنا وتتسع صدورنا، فهناك فهم خاطىء عند بعضنا أنه إذا صام ضاق صدره وقرب غضبه وينبغي على من حوله ان يبتعدوا عنه حتى لا تثور ثائرته، وحقيقة لا ندري من أين أتى هذا التفكير المنحرف وكيف دخل الشيطان على بعضنا بهذا المدخل؟.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا إذا صمنا أن نحافظ على أخلاقنا ولا نبادر بالاستجابة لنزغات الشياطين حتى وإن بدرت من الآخرين نحونا إساءة أو غلظة ، فيقول صلى الله عليه وسلم: (فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب ، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل : إني امرؤ صائم) رواه البخاري.
فلنجعل تحسين الأخلاق هدفا نسعى إليه في الصيام ليكون ذلك عادة لنا في غيره من الشهور، ولنستحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم : (إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا) رواه الترمذي.
الإقلاع عن التدخين
من الآفات الكبيرة التي وقع فيها عدد كبير من أبناء المسلمين آفة التدخين، ولا شك أن التدخين من المحرمات؛ لما فيه من الضرر المتحقق ولأنه من الخبائث وهو الباب الذي يلج منه بعض المدخنين إلى الإدمان، ولأنه من الإسراف المنهي عنه شرعا... إلى غير ذلك من الأسباب التي تجعله حراما مقطوعا بحرمته، وكثير من المدخنين يصومون شهر رمضان فيمتنعون شهرا كاملا عن التدخين بمعدل يصل إلى خمس عشرة ساعة يوميا مما يدل على إمكانية ترك التدخين بالكلية لو توافرت العزيمة الصادقة، فلماذا لا نجعل من أهدافنا الامتناع عن التدخين تماما تقربا إلى الله تعالى بالامتناع عن الحرام، ومحبة لزوجاتنا وأولادنا الذين عادة ما يكونون أول من يكتوي بنار الدخان، واستحضارا لرهبة السؤال بين يدي الله تعالى حيث يسأل العبد عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، ولا شك أن إنفاق المال في شراء الدخان حرام.
الدعاء المستجاب
لقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن للصائم عند فطره دعوة لا ترد، فلماذا لا نجعل من جملة الأهداف انتقاء بعض الدعوات التي نرجو تحقيقها لأنفسنا ولمن نحب وللمسلمين، وهذا يستدعي منا الحرص على تحري أوقات الإجابة عند الفطر وفي وقت السحر وبين الأذان والإقامة وبعد العصر من يوم الجمعة إلى غير ذلك من أوقات الإجابة، كما يستدعي استحضار الفقر والذل والحاجة، وينبغي ألا ينسى المسلم إخوانه المستضعفين والمكروبين والمجاهدين من دعواته أن ينصرهم الله ويرفع عنهم ويفرج كرباتهم.
صلة الرحم
لصلة الرحم في ديننا شأن عظيم لا يخفى على كثير من المسلمين لكن في غمرة الحياة نغفل كثيرا، وربما قطعت الأرحام لأسباب تافهة، وأغلب هذه الأسباب راجع على الدنيا وتعظيمها في القلوب، وقد اقترب رمضان جدا.. فلماذا لا نجعل من أهدافنا في رمضان أن نصل هذه الأرحام وأن نكون نحن المبادرين بالزيارة بالهدية بالاتصال؟
ربما جاء الشيطان عن مبادرتنا فقال سيطردونك سيسيئون مقابلتك أو الرد عليك بغلظة.. وغير ذلك مما يثبطنا به عن فعل الخير، حسنا فلنقل له: إننا نصل أرحامنا طاعة لله وتقربا إليه فليفعلوا ما شاءوا فلن أتراجع. ألا يكفي أن نفوز بثواب البر والصلة؟ ألا يكفينا أن يكون معنا ظهير ونصير من الله طالما وصلنا أرحامنا وإن أساءوا وإن قطعوا؟ ألا نريد جنة عرضها السموات والأرض؟.
أيها الحبيب هذه جملة من الأهداف وضعناها بين يديك وهي ليست نهاية المطاف، فيمكنك أن تضع أكثر منها بكثير وتعمل على تحقيقه، ومما يعينك على الوصول لهذه الأهداف وغيرها، ويهون عليك المشاق والصعاب استحضارك لعاقبة التعب في طاعة الله وثواب المجتهدين في التقرب إليه سبحانه يوم يقوم الناس لرب العالمين، فالراحة الحقيقية هناك حيث النعيم المقيم مما لم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر.
فاللهم بلغنا رمضان، وأعنا على الإحسان، واجعلنا من عتقائك فيه من النار، وصل اللهم وسلم وبارك على عبدك ورسولك مُحَمد وآله وصحبه أجمعين..