من أسوأ الجرائم التي غلّظ القرآن الكريم نتائجها، وشدد العلماء في الكلام عنها، وأنكروا على مرتكبها: جريمة القتل، تلك الجريمة التي تعكس نفسًا همجية مترخصة في النظر لقيمة الحياة الإنسانية، والتي يهون دونها هدم الكعبة، وذهب بعض العلماء إلى عدم قبول توبة مقترفها، وهي - مع ذلك - من أكثر الجرائم انتشارًا في زماننا!
ويتخذ القتل صورًا شتى يهتم بها الشرع، ويعاقب عليها القانون، وترفضها الفطرة الإنسانية، لكن من الصور التي ربما لا ينتبه لها الناس في غمرة العمل للذات، أو العصبية للاّفتات:
صور القتل المعنوي، بالتجاهل والإهمال، وربما بالجحد والإلغاء، وربما بالتشويه والتزييف والإهانة، وهذا النوع من القتل مؤلم شديد، لأن القتيل الذي أزهقت روحه قد استراح، أما الذي يقابل بالتجاهل فهو يُقتل كل يوم، ويداس على عنقه كل يوم، ويحتقر كل يوم.. وليس هذا شأن أهل المروءات والإنصاف.
وفي قرننا هذا ظهر عشرات المبدعين والعظماء من علماء المسلمين ومبدعيهم ، ممن كانوا غررًا في جبين الفكر، وشموسًا في سماء العلم والدعوة، نسينا أسماءهم وكتبهم ومواقفهم وجهادهم، في حين يرتفع من هم دونهم علمـًا وسنًّا وفضلاً.. وإلا فأين نحن من عالمنا محمد بك الخضري، ومحيي الدين عبد الحميد، والإسكندري، والغمراوي، وأحمد شاكر، وحفني بك ناصف، وأشباههم من المظاليم؟
ومن الناس الذين أحس أنهم لا يزالون يقابلون بكثير من التجاهل والجحود المرحوم الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي - عليه رحمة الله ورضوانه - "1882 - 1967م" ذلك الأستاذ الضخم الفخم، الذي خدم القرآن الكريم والسنة المشرفة خدمات جليلة، لم يطقها كثيرون غيره،لم يتخرج من جامعة، ولم يحصل على شهادة عالية، كما كتب الأستاذ: محمد سيد بركة، مثل الرافعي والعقاد وابن باز وابن عثيمين، لكنه صنف فريد من الرجال القمم الشوامخ الذين تركوا للأجيال اللاحقة أعمالاً خالدة بفضل الله سبحانه وتعالى ثم بفضل إيمانهم العميق بخدمة كتاب الله وسنة رسوله الكريم صلى الله تعالى عليه وعلى آله وصحبه وسلم. عمل في التدريس، والترجمة، ثم فرغ نفسه بعد ذلك للعلم، والتصنيف..
مفتاح كنوز السنة:
قام منذ أوائل القرن بما يقوم به الكمبيوتر الآن، حين حاول تيسير البحث في القرآن الكريم وفي دواوين السنة الكبرى بحيث يجد الباحث طلبه بيسر، حتى إن الشيخ أحمد شاكر رحمه الله لما أخرج عبد الباقي مفتاح كنوز السنة ذكر أنه كان يمكنه أن يوفر شطر عمره لو كان "المفتاح" قد ظهر قبل ذلك بعدة عقود.
ويقول هو عنه : " لئن كان كتابٌ من عند غير الله له أوفر نصيب من الصحة، لقد كان هذا الكتاب.. ووالله ما أقدمت على وضعه، وإرهاق نفسي، وإضناء جسمي، وإنهاك قواي في عمله، والدّأب في ترتيبه وتنسيقه، وإعادة مراجعته مرات متعددة، إلا لما أيقنت من شدة الحاجة إليه، وفقدان ما يسد مسده مما ألف في بابه"
المعجم المفهرس:
لزم الشيخ رشيد رضا، وأفاد منه، ثم تطلع إلى ترجمة كتاب المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي فأرسل إلى الدكتور فنسنك Wensinck يطلب منه إذناً صريحاً بالترجمة باعتباره مؤلف كتاب (مفتاح كنوز السنة) واستجاب له الدكتور فنسنك، ولم يكتف بالموافقة فحسب بل أرسل إليه الفصل الأول من المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي، فاطلع عليه، ووجد به أخطاء كثيرة، فضمنها كشفاً أرسله إلى الدكتور فنسنك، فسُر لذلك وطلب منه فنسنك تصحيح (بروفات) المعجم، ومضى في ذلك إلى آخر حياته. وقد تخطف العلماء هذا المعجم أول ظهوره، حتى إنه كان يباع قبل أكثر من أربعين سنة بخمسة آلاف ريال كما سمعت من بعض المشايخ والمعمَّرين، حين كان الآلاف الخمسة هذه تساوي ثروة كبيرة فعلاً.
وقد بقي هذا المعجم - زمنًا طويلاً - الذراع الأيمن لطلاب الحديث النبوي الشريف، حيث جمع أحاديث الكتب الستة إضافة إلى الموطأ ومسند أحمد وسنن الدارمي..
وقد حدث أن الشيخ محمد عبده في مطالعته للقرآن الكريم كان يأتي بالآيات المتشابهات وسأله الشيخ رضا أنّى له هذا؟ فأجاب الشيخ محمد عبده بأنه يستعين بكتاب عنده باللغة الفرنسية لمؤلفه (جول لابوم), وبعد موت الشيخ محمد عبده بحث الشيخ رضا عن الكتاب في تركته فلم يعثر عليه، وأفضى بما في نفسه إلى الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي، فقال له هذا الكتاب عندي باللغة الفرنسية، فطلب منه أن ينقله له, فرحب بذلك وقام بترجمة الكتاب إلى اللغة العربية وقدمه إلى الشيخ محمد رضا سنة 1924م, وفي سنة 1934م جاء أحد أقارب الشيخ محمد رضا وعرض عليه طبع الكتاب وفعلاً تم طبعه .
اللؤلؤ والمرجان وغيره:
كما جمع عبد الباقي - رحمه الله - الأحاديث المتفق عليها في "اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان"، وصنف معجم غريب القرآن، كما فَهْرسَ موطأ مالك، وسنن ابن ماجه، وصحيح مسلم، وخرّج وحشّى الكشاف، وفهرس (موطأ الامام مالك) و (سنن ابن ماجه) و (صحيح مسلم) وأضاف إليها شروحا، وخرج الأحاديث والشواهد الشعرية في كتاب (شواهد التوضيح والتصريح لابن مالك) وخرج أحاديث (الأدب المفرد للبخاري). وله (جامع الصحيحين) و(أطراف الصحيحي) ، و(جامع المسانيد) و(المسلمات المؤمنات: ما لهن وما عليهن، من كتاب الله والحكمة، وأشرف على تصحيح (محاسن التأويل) في سبعة عشر جزءا للسيد جمال الدين القاسمي. وكان يقول الشعر في صباه.. يقول عنه الأستاذ أحمد تمام رحمه الله: "أطال الله في عمر محمد فؤاد عبد الباقي حتى بلغ العقد التاسع، لكنه ظل متمتعًا بصحة موفورة، ونشاط لا يعرف الكلل، وحياة منتظمة أعانته في إنتاج الأعمال التي يحتاج إنجازها إلى فريق من الباحثين، وبارك الله فيما كتب، فانتشرت كتبه شرقًا وغربًا، وعم الانتفاع بها، وظل يؤدي رسالته حتى لقي ربه في سنة (1388 هـ/1967م). ليموت - رحمه الله - عن 86 سنة قضـاها في خـدمة القرآن والسنة، ويترك لنا زادًا لا غنى لأحد عنه".
ولم يكن لمثل هذه الأعمال العظيمة أن ترى النور لو لم يكن وراءها صبر شديد، وعزيمة قوية، ودقة متناهية، وحياة منضبطة، وتوحيد للهدف، وتجرد وإخلاص، وهكذا كانت حياة الرجل، كما كتبت ابنة أخيه الأستاذة الدكتورة نعمات أحمد فؤاد تصور حياة عمها بقولها:
"وحياة الرجل الخاصة تدخل في باب الغرائب، فنحن نسميه صائم الدهر، فكان يصوم الدهر كله لا يفطر فيه إلا يومين اثنين هما أول أيام عيد الفطر، وأول أيام عيد الأضحى، وطعامه نباتي، ... وكان محافظًا في كل شيء، وكان زاهدًا في الاجتماعات والتعارف، يفسر هذا وكأنه يعتذر: إن التعرف إلى الناس، تقوم تبعًا له حقوق لهم والتزامات واجبة الرعاية والوفاء، وليس عندي وقت لهذا، ولا أنا أطيق التقصير فيه لو لزمتني".
لكن من يهتم الآن بعبد الباقي؟ من كتب عن سيرته؟ من تحدث عن أعماله العلمية، ونوّه بخدماته الجليلة التي نحن عالة عليها، في الوقت الذي تطاردنا فيه صور وأخبار الكابتن فلان، والهداف علان، والممثل تلفان؟
________
عبد السلام البسيوني بـ"تصرف"