بعض التحسينات الصغيرة والمستمرة بإمكانها أن تحقق مطلب الجودة الشاملة في ميدان العمل الإعلامي، فيما لو توفرت سياسة إعلامية تتبنى هدف الجودة الشاملة على مستوى التخطيط، والبرامج، والمخرجات الإعلامية.
إذ لا يخفى على كل من يتابع المؤسسات التي نجحت في الحصول على شهادة الجودة الشاملة أن طريقة أداء كل مؤسسة للوصول إلى ذلك المطلب كان يخضع لجملة من الشروط الموضوعية من أهمها: مدى استعداد القاعدة العاملة لتحقيق تلك النقلة ومدى قدرتها على التكيف مع الشروط اللازمة لتحقيقها.
القاعدة المفاهيمية للجودة الشاملة تنطلق من رؤية متكاملة لعمل المؤسسة بدءا من لحظة توليد الأفكار إلى لحظة خروج العمل والفراغ منه.
وفي سبيل تحقيق دورة متكاملة ومسيرة متصلة تكلل بالنجاح المهني المطلوب، تتشكل بيئة العمل وفقا للمعايير التي تتطلبها شروط التميز والإبداع.
من أهم تلك المعايير: تغيير مهام الكوادر الإدارية وصلاحياتها من الشكل التقليدي إلى الشكل الحديث.
بحيث ينتقل مركز القرار من قمة الهرم الإداري إلى فرق العمل؛ التي تعتبر العمود الفقري لمشاريع الجودة الشاملة.
اللبنة الأولى التي تعتمدها أي مؤسسة في العالم سواء كانت في اليابان أو في الولايات المتحدة، والتي نجحت في الحصول على شهادات الجودة الشاملة تمثلت في استحداث فرق العمل، وما صاحبها من تغير في موقع القرار بهدف توفير المرونة الكافية لتلك الفرق؛ والتي لن تستطيع أن تقوم بمهامها وهي لا تمتلك سلطة إصدار القرارات اللازمة لتفعيل برامجها.
ولعل النظام الإداري الشبكي هو أكثر النظم المرشحة لإحداث التغيير المطلوب، والتحول إليه يعني بداية السير على الطريق الصحيح.
من اللافت أثناء تتبع خطوات المؤسسات الرائدة في هذا المجال: أن اللامركزية في القرار الإداري غدت ضرورة من ضرورات استمرار الزخم الذي أحدثه هدف تبني نظام الجودة الشاملة.
كما أن الجدية في اللحاق بالمركب الأول في مسيرة الألف ميل عكسه اندماج القاعدة بالقيادة، وتكوين ثقافة جديدة تعتمد التحسين المستمر وتطوير الأداء ضمن خط سيرها العام.
مشاركة فئات العمل المختلفة من خلال فرق العمل تعني أن طاقم العمل بات مسؤولا عن النتائج خلافا لما هو سائد في البيئات الوظيفية الأخرى التي ترى أن الإدارة وحدها تتحمل تلك المسؤولية.
كما لا يخفى أن فتح الطريق أمام الموظفين للمشاركة في هدف تحقيق الجودة الشاملة سيحرك المياه الراكدة في بيئة العمل، ويؤدي دورا شبيها بحراثة الأرض وتقليبها لتجديد هواء التربة وإنعاشها ليكون نتاجها بعد ذلك مضاعفا، وعطاؤها أعم.
ولعل هذا العامل هو سر التألق في مخرجات الجودة الشاملة حيث يقدم الموظف رؤيته في الخطط والبرامج التي تعتمدها المؤسسة، ويدلي بآرائه في أجواء تؤكد له أنه حجر الأساس في مشاريع التطوير والبناء.
وشتان بين هذه الأجواء المفتوحة على الأفكار الخلاقة النابعة من فئة الموظفين، وبين بيئة منغلقة مكتومة تكاد تصادر كل فكرة جديدة، وربما وأدتها في مهدها لو علمت بها قبل أن يتفوه بها زيد أو عمرو من الموظفين!
شتان بين بيئة صحية تصر على استخراج أفضل ما لدى الآخرين، وبين بيئة نائمة قنعت بالنجاح القديم الذي حققته، وتكيفت مع ما هو سائد، وبدا لها أن دفء العادة أحب إليها من صقيع التمرد على المألوف، والإتيان بالجديد!!
شتان بين من يعمل وعينه مصوبة نحو القمة، وبين من يعمل ونظره مشدود إلى الأرض!
شتان بين من يرفض أنصاف الحلول ولا يقنع ببعض النجاح الجزئي، وبين من يرى أن كل يوم جديد هو فرصة جديدة لتحقيق المزيد من التألق والنجاح.
إن المسافة شاسعة، والمدى بعيد بين من يدركه التعب في منتصف الطريق، ومن لا يبالي به، لأنه يعتقد أن القمة وحدها مكانه الصحيح.
هذا هو جوهر فلسفة الجودة الشاملة؛ التي بدأ تطبيقها في اليابان في القرن العشرين على يد مبتكرها " ديمنج " الملقب بأبي الجودة الحديثة، والذي كرمته بلاده حين أطلقت عام 1951م جائزة باسم "جائزة ديمنج" للشركة أو المؤسسة التي تبتكر في برامج إدارة الجودة الشاملة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كتاب: الإعلام فوق رمال متحركة