توالت التغطيات الصحفية والإعلامية في الكيان الصهيوني في الآونة الأخيرة، لعدد من التصريحات والتقارير والتسريبات التي يصــدرها جيش الاحتـلال حول ما تحفل به غزة من تطورات. وقد اختلفت طبيعة التغطيات: ما بين الخبر والتقرير والتحقيق والتحليل والمقال، للدرجة التي جعلت القارئ والمستمع والمشاهد، في مختلف الأقطار، يرى أن العدَّ التنازلي قد بدأ فعلاً لإمكانية توجيه ضربة عسكرية جديدة ضد حركة حماس في قطاع غزة.
تسريبات استخبارية:
بالرغم من التكتم الاستخباري الذي تبديه الأوساط العسكرية الصهيونية تجاه أي معلومات قد تحصل عليها؛ إلا أن الأسابيع الأخيرة شهدت تكثيفاً في مختلف وسائل الإعلام للتسريبات الأمنية والاستخبارية «الموجَّهة» تجاه القدرات العسكرية لحركة حماس، وتناميها، تحضيراً - كما يبدو - لضربة محتملة ضد الحركة، ومن شواهد هذه التسريبات:
1 - أوردت إذاعة الجيش الإسرائيلي تصريحاً لقائد تشكيلة غزة العميد «إيال ايزنبرغ» عن مواصلة حركة حماس تكديس الأسلحة بكميات كبيرة، من خلال الاستمرار في تهريب الأسلحة عبر الأنفاق، وهو ما يعني: أن ترسانة حماس من الأسلحة تتراكم يوماً بعد يوم.
2 - ذكرت صحيفة هآرتس أن رئيس أركان جيش الاحتلال «غابي أشكنازي» هدد بشن حرب جديدة ضد قطاع غزة، وإن المعركة المقبلة التي سيُضطر الجيش لخوضها ستكون هناك، وسيعود الجيش لمواجهة منصات إطلاق القذائف الصاروخية في المناطق السكانية الأشد كثافة في المعمورة، والقتال في القرى والمدن والمساجد والمستشفيات ورياض الأطفال والمدارس.
3 - نقل التلفزيون الإسرائيلي عن رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية المعروفة باسم: «أمان»، تصريحاً خلال اجتماع لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست حول نجاح كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس في إجراء تجربة ناجحة لإطلاق صاروخ يبلغ مداه 60 كيلو متراً قادر على ضرب تل أبيب.
وقد كشف اللواء «عاموس يادلين» النقاب عن أن حماس لم تستكمل فقط ترسانتها من الصواريخ والمقذوفات الصاروخية التي فقدتها في الحرب، بل تسلحت أيضاً بكميات أكبر مما كان بحوزتها عشية الحرب: أكثر من ألف صاروخ قسام للمدى القصير حتى 20 كم، و200 صاروخ غراد بمدى 40 كم، وبناءً على ذلك؛ فإن أي مواجهة مع حماس ستعني عملياً: أنها ستُدخِل الصهاينة في وسط الكيان في نطاقها.
4 - نشر موقع جيش الاحتلال الإسرائيلي على شبكة الإنترنت خبراً مؤدَّاه أن حركة حماس نجحت في إدخال تكنولوجيا جديدة ساعدت كثيراً في تطوير منظومة الصواريخ المحلية التي يمتلكها نشطاؤها.
5 - صرحت مصادر أمنية صهيونية لصحيفة «جيروزاليم بوست» بأن حركة حماس تمكنت من إدخال صواريخ مضادة للطائرات يمكنها أن تشكِّل خطراً على المروحيات والطائرات التي تُحلِّق على علوٍّ منخفض في سماء قطاع غزة، وهي صواريخ من شأنها أن «تُخِل بالتوازن القائم»، وهو ما يمس التفوق الجوي الإسرائيلي، وأن تقيِّد نشاطات الجيش وتردعه عن شن عملية عسكرية على قطاع غزة، وأن الجهود التي تبذلها حماس لإدخال صواريخ مضادة للطائرات أحد الدروس الأكثر أهمية التي استخلصتها من الحرب الأخيرة، معتبرين أن إسقاط طائرة أو مروحية إسرائيلية سيكون إنجازاً دعائياً كبيراً لحماس.
تحضيرات ميدانية:
إلى جانب تلك التسريبات الموجَّهة، والأنباء التي تأخذ طابع «الفبركة الإعلامية»، فقد حَفِل الميدان العسكري، بتحركات تشير إلى شيء ما يحضَّر لقطاع غزة، ومن ذلك:
1 - ما أعلنه رئيس قسم الدفاع المدني في جيش الاحتلال الكولونيل «شيليك سوفر» لصحيفة «معاريف» من أنه سيَجري قريباً اعتماد نظام لتحذير سكان مناطق الكيان الصهيوني قبل أن تستهدفهم صواريخ حركة حماس، وقال: نطوِّر جهازاً يستطيع أن يكشف مسبقاً عملية إطلاق صاروخ ومكان سقوطه، ويجري إبلاغ سكان المنطقة عبر هواتفهم النقالة، وأن هذا النظام سيسمح بإبلاغ الصهاينة المهدَّدين بسقوط صواريخ على قطاعهم عبر رسائل قصيرة أو وميض على هواتفهم النقالة».
2 - تنفيذ جيش الاحتلال لمناورة مشتركة مع الجيش الأمريكي تحت اسم «جونيبر كوبرا 10» استعداداً لحرب صاروخية محتملة، بعد المناورات الدفاعية الجوية الواسعة النطاق التي شهدتها الأيام الأخيرة لتشغيل أنظمة إسرائيلية وأمريكية في وقت متزامن، لتشكِّل مظلة مضادة للصواريخ، هي الأكثر تطوراً في العالم. وقد أوردت وسائل الإعلام الصهيونية أن عدد الجنود المشاركين في المناورة بلغ ألف جندي، لتجربة أسلحة تهدف إلى إنشاء نظام الدفاع الأكثر تطوراً لحماية الصهاينة ومنازلهم من هجمات بالصواريخ، كما أورد التلفزيون الصهيوني أن رئيس الحكومة «بنيامين نتنياهو» ووزير الحرب «إيهود باراك» زارا مواقع مناورة «جونيبر كوبرا» الصاروخية، وأعلنا أنها مناورة جيدة جداً، وسبقها عمل تمهيدي طويل جداً من الجيش، وهي مناورة بحجم لم يسبق له مثيل.
3 - عودة القصف الإسرائيلي من جديد لمناطق مختلفة من قطاع غزة، بدعوى: ضرب الأنفاق التي تُستَخدَم لتهريب الأسلحة، واستهداف وُرَش الحدادة، وهي المواقع التي وصفتها صحيفة «إسرائيل اليوم»، بأنها «بنك الأهداف» المفضل لجيش الاحتلال لو اندلعت حرب جديدة ضد قطاع غزة.
4 - سربت الإذاعة العسكرية نبأً مفاده أن حركة حماس حسَّنت من قدراتها العسكرية في مجال حفر الأنفاق؛ حيث باتت تحفر أنفاقها بعمق كبير يصل إلى ما بين 20 – 25 متراً، وتتقدم بوتيرة خمسة أمتار في اليوم.
5 - أوردت القناة الثانية في التلفزيون الإسرائيلي على لسان نائب وزير الحرب «ماتان فلنائي»: أن الدوائر الأمنية تُعِد العدة من الناحيتين: الهجومية والدفاعية؛ للتعامل مع احتمال تزوُّد حماس بصواريخ بعيدة المدى، وأن الحركة تُجري استعداداتها لخوض مواجهة مستقبلية.
هذه التحركات وسواها، تشير بما لا يدع مجالاً للشك إلى أن جيش الاحتلال يحضِّر شيئاً ما ضد حركة حماس في قطاع غزة، وهو ما دفع بالمحلل العسكري البارز «أليكس فيشمان» للقول صراحة في صدر صحيفة «يديعوت أحرونوت»، بعنوان بارز: «نحن وحماس بانتظار المواجهة القادمة في كانون ثاني».
وهو ما يجعل المسؤولين الصهاينة في القيادتين: (الأمنية والعسكرية) لا يسألون إذا كانت ستقع مواجهة عسكرية أخرى مع حماس في قطاع غزة، بل متى وكيف؟ وهو ما يجعل الافتراض بأن المواجهة ستُستأنف بحجم واسع أوائل العام القادم، مع مرور سنة على حرب «الرصاص المصبوب».
وبناءً على ذلك؛ فإنه منذ اللحظة التي أصبحت فيها منظومة الصواريخ بعيدةِ المدى التي تجمعها حماس تنفيذية، فإن المواجهة معها ستكون فقط مسألة وقت.
الجدير بالذكر أن هذه التهديدات والتسريبات تأتي على وَقْع مناظرة ساخنة أوردتها مختلف وسائل الإعلام الصهيونية، المقروءة والمسموعة والمرئية، جرت بين رئيسَي هيئة الأركان السابقين لجيش الاحتلال: «دان حالوتس وموشيه يعلون»، ودارت معظمها حول الذكرى السنوية للحرب على غزة؛ حيث قال «يعلون»: إن الحرب على غزة جاءت متأخرة، وكان ينبغي شنُّها منذ زمن بعيد، مبرراً إياها بالقول: «إن الصواريخ كانت تسقط علينا كالمطر، ولم نستطع الصبر على ذلك، وقد صبرنا كثيراً، وكان علينا أن نشن الحرب منذ زمن لإيقافها».
بين الحرب والاستنزاف
ربما تكاد تتفق الكثير من الأوساط الصهيونية (الإعلامية منها والحزبية، والعسكرية والأمنية) على أن شيئاً ما يحضَّر لحركة حماس في قطاع غزة، لكن الاختلاف ما زال سيد الموقف على توقيت إشعال «عود الثقاب» الذي قد يفجِّر الموقف، وحجم العملية العسكرية المفترضة:
1 - دقَّة التوقيت: فقد صرح ضابط كبير في جيش الاحتلال لصحيفة «يديعوت أحرونوت» أن قواته لا تستطيع الانتظار حتى الانتهاء من نظام القبة الحديدية أواسط عام 2010، منوهاً إلى أنه مستعد أيضاً لأي تصعيد في الوضع الأمني على الحدود مع قطاع غزة، وبكافة الطرق والوسائل. ومع ذلك، فقد أشارت الصحيفة إلى أن قيادة الجبهة الداخلية التابعة للجيش لا تنوي حتى اللحظة، توزيع مجموعات من الأشخاص مهمتها الإرشاد أو الإشراف على خطط أخرى في المناطق الموجودة تحت مرمى الصواريخ الجديدة، رغم أن التهديدات المُنبعثة من قطاع غزة تُغطِّي معظم الأراضي المحتلة. بينما تساءلت دوائر إعلامية أخرى عمَّا إذا كانت هناك أسباب ورسائل يهدف المستوى العسكري والسياسي في الكيان الصهيوني إلى إرسالها إلى جهات معنية من خلال اختيار هذا التوقيت بالذات لتسريب معلومات تمتلكها المخابرات الصهيونية منذ أكثر من شهرين حول قدرات حماس العسكرية.
يأتي هذا التكهن في وقت أجمع فيه محللون وخبراء صهاينة على أن التهديدات بالعدوان على قطاع غزة «غير مستبعَدة»، وليست بالجديدة، مؤكدين أن الاحتلال يرمي إلى تهيئة الرأي العام لتقبُّل ضربة عسكرية للقطاع، معتبــرين أن الاحتلال يوجِّه رسائل للغرب؛ لكي يتقبل هجومه السابق على غزة باعتباره «دفاعاً عن النفس»، ويتقبَّل أي عدوان قادم بصفته تلك.
إلى جانب ذلك، فقد أشار مختصون صهاينة في الحرب النفسية إلى رغبة قيادة الكيان في الاستمرار في سرد المعلومات عن تسلُّح المقاومة وتطويرها لوسائلها القتالية؛ لوضع الجمهور الصهيوني في حالة قَلَق وخوف مستقبلي يبرر استمرار ارتفاع ميزانية الحرب من جهة، ومن جهة أخرى استنفاره لصالح أي حرب مستقبلية يبادر إليها الجيش.
2 - حجم الضربة: هناك استبعاد لإقدام قوات الاحتلال على حرب جديدة ضد غزة، بالشكل الذي كانت عليه الحرب السابقة، وما دام هناك هدوء نسبي يسود المستوطنات في ظل وَقْف إطلاق الصواريخ عليها، ولم تنفِّذ المقاومة عمليات قتل أو أسر، فسيكون من الصعب على الاحتلال الخروج لحرب جديدة.
ومع ذلك؛ فليس من المستبعَد استمرار عمليات التوغل المحدودة على حدود غزة؛ لتحقيق عدة أهداف منها: الوقوف على جاهزية المقاومة، واستجلاب ردود أفعال منها قد تبرر الحرب مستقبلاً، والتواصل مع عملائها في الداخل.
حرب الكلمات:
ليس خفياً أن الإعلام الصهيوني لديه خبرات كبيرة في مجال «حرب الكلمات»؛ حيث يضع عناوين حروبه، ويستخدمها بدلالات محدَّدة تخدم هدف التخويف والترهيب بجانب أهداف فرعية، ويأتي اللجوء الإسرائيلي لهذه الحرب الكلامية في إطار «حرب نفسية» موجَّهة ضد الفلسطينيين. وبناءً على ذلك؛ فإن كل من تابع العدوان الأخير على قطاع غزة، وحتى قبل أيام قليلة من بدئه الفعلي على الأرض، يصاب بالدهشة الفعلية من تلك المهارة التي تميز بها إعلام الاحتلال في تضليل ما يخفيه المستوى العسكري والأمني والسياسي الإسرائيلي للقطاع، وهي الملامح نفسها التي نستنتجها من كل حرب يخوضها الاحتلال، وما نراه في مثل هذه الأيام.
هنا من الضرورة بمكان أن نكشف النقاب عن قيام تل أبيب بإنشاء «هيئة الإعلام القومي»؛ لتوضِّح خلفية الحملات العسكرية على غزة لوسائل الإعلام والسياسيين، بالتنسيق مع سكرتير الحكومة، ومع قوى الأمن المختلفة، واعترف رئيس الهيئة «ياردن فاتيكا»، بأنها أعدَّت المواد الإعلامية التوضيحية والمقابلات والرسائل، وبات الموضوع الإعلامي يتوحد مع عملية اتخاذ القرارات في العملية العسكرية المفترضة.
وهكذا فإن الحرب الإعلامية كانت وما زالت من أهم الوسائل المصاحبة لأزيز الرصاص وهدير القذائف. وأهميتها في تهيئة أجواء الحرب والتفنن في إدارتها باتت أكثر سمات الفضاء المفتوح، وما لا يمكن أن ننكره جميعاً خلال الأيام التي سبقت هذا العدوان أن الإعلام الإسرائيلي خاض غمار المعركة العسكرية عبر صفحاته، قبل أن تدك عجلات الدبابات الإسرائيلية أرض القطاع، وصواريخ طائراتها تحوِّل الجثث إلى أشلاء.
ومن غير مبالغة في القول؛ فإن قدرة الإعلاميين الصهاينة على قلب الحقائق وتسويق الأوهام، على أنها مسلَّمات بطريقة فائقة تجعل الشخص غير الملِم بحقيقة الاحتلال للأراضي الفلسطينية ينحاز لوجهة نظرهم، ومن ثَمَّ يقع في الشَّرك الذي رسموه.
والسؤال الذي نكرره دائماً، في كل حادثة مشابهة للعدوان الإسرائيلي، هو: كيف يمكن أن نقرأ ما ينشره إعلام العدو؟ وما الذي يجعله إعلاماً فاعلاً حقاً لا سيما أننا بتنا نعيش في فضاء العالم المفتوح عبر الأقمار الاصطناعية وشبكة المعلومات الدولية «الإنترنت»؟
الأمر الأكثر بروزاً في الأيام الأخيرة، هو: أن الإعلام الصهيوني يقود حملة تحريض واسعة قبل البدء فعلاً بالعدوان؛ فقد حَملت صحيفة «معاريف» في أحد أعدادها عنواناً عريضاً ملفتاً على صفحتها الأولى.
يقول: «خائفون من حماس»، وهو ما يمكن أن يشكِّل نوعاً من الاستفزاز، بينما نشرت «هآرتس» عنواناً آخر يقول: «في غزة مستعدون للحرب»، وهو ما يصور للجمهور الصهيوني أن غزة دولة قوية تستعد للحرب بامتلاكها أسلحة قادرة، ويجب محاربتها.
ولم يكتفِ الإعلام بقض مضاجع السياسيين، بل تسلل إلى قلوب وعقول الجماهير، ممارساً نوعاً من «الإرهاب» عليه من خلال تصويره كضحية؛ فالعنوان الرئيسي الذي حملته صحيفة «الأسبوع» يقــول: «واحد من كل ثمانية إسرائيليين تحت مدى الصواريخ»، وإلى جانب هذا الخبر خرائط تبيِّن مدى الصواريخ التي قد تنطلق من غزة باتجاه الكيان.
لهذا؛ فإن البعد عن الواقع والذهاب للتحريض والتضليل جعل من توفير الخِيارات شيئاً محدوداً أمام صاحب القرار السياسي والأمني في الكيان؛ فليس من الممكن أن يصمد أمام تعبئة داخلية هدفها الأساسي هو الدفع لتنفيذ المخططات العدوانية واقعياً، وما يمكن قوله: إن إعلام الاحتلال يعيش حالة من التجنيد الذاتي «للمصالح» الخاصة بالكيان؛ فهناك دافع ذاتي داخل مؤسساته الإعلامية يجعل من كل فرد فيها يمارس دوره «الوطني» دون أن يكون هناك من يجبره على ذلك.
ــــــــــــــــــ
البيان: د.عدنان أبو عامر