أجهش العلامة إبراهيم بن جاسر - رحمــه الله - (ت 1338هـ) بالبكاء، لما قرئ عليه في كتاب (منهـاج السُّنة النبوية في نقض الشيعة والقدرية لابن تيمية)؛ حيث جاء قول ابن المطهِّر الحلي[الشيعي المحترق الهالك] وما فيه من شبهات ومغالطات، ثم قال الجاسر لطلابه: أيها الإخوان! لو لم يقيِّض الله لهذا الطاغية وأمثاله مثل هذا الإمام الكبير؛ فمن الذي يستطيع الرد والإجابة عن هذه الشبهات؟)علماء نجد للبسام: 1/281.(
وإذا تجاوزنا ما قاله العلاَّمة ابن جاسر؛ إذ لا تخلو الأرض من قائم لله - تعالى - بحجة، وتحدثنا عن السبيل إلى التعامل مع الشبهات ومدافعتها.
فالشبهــة إن كانت واضحة البطلان، ظاهرة العوار لكل ذي عينيــن، لا يُلتفــت إليها؛ فإن الخوض في إبطالها تضييع للــزمــان، وإتعاب للحيوان، وإنما المـدافعة للشبهات التي يَضِل بها بعض الناس؛ «إذ لا يشبه على الناس الباطل المحض، بل لا بد أن يُشاب بشيء من الحق»[مجموع الفتاوى: 8/37.].
كمــا ينبغي التوسط مع الشبهات في حدِّ ذاتها؛ فالشبهات المغمــورة، والاعتراضات المطمورة لا يُلتفت إليها بدعوى الرد والمناقشة؛ إذ في ردِّها إظهارٌ لها بعد اندراسها، وإحياءٌ لرميمها، ولكن الشبهات التي استفحلتْ وأوقعت حيرة ولبساً عند فئام من المسلمين، فالمتعيَّن مدافعاتها ومناظرة أربابها ومجادلتهم. قال ابن تيمية: «كل من لم يناظــر أهل الإلحــاد والبــدع مناظرة تقطع دابرهم، لم يكن أعطى الإسلام حقه، ولا وفَّــى بموجب العلــم والإيمان، ولا حصــل بكلامه شفاء الصدور وطمأنينة النفوس...»[ درء تعارض العقل والنقل: 1/357،].
وكذا التوسط مع الشبهات أثناء سماعها من الآخــرين، أو ورودها من المخاطبين؛ فلا يزجر كل سائل تَعْرض له شبهة، ولا يُهمَل كل من وقع في حيرة أو اشتباه؛ فهذا الإعراض والإهمال قد أفضى ببعضهم إلى زندقة، وخروج عن الإسلام والسُّنة. وكذا الحذر مما يقابل ذلك، من تَقَصُّـد الشبهات، أو دعوة الناشئة إلى إثارة أي شبهة أو إشكال، كما يفعله بعض المعاصرين؛ فإن تتبُّع الشبهات وحصرها ليـس مقدوراً ولا مشروعاً؛ فالشبهات لا تنقضي ويستحيل حصرها. ولا يكلّف الله نفساً إلا وُسْعها؛ «فالمعارضات الفاسدة التي يمكن أن يوردها بعـض الناس على الأدلة لا نهاية لها؛ فإن هذا من باب الخواطر الفاسدة، ولا يحصيه أحد إلا الله... فالخواطر الفاسدة التي تقدح في المعلومات لا نهاية لها، ولا يمكن استقصاء ما يَرِد على النفوس من وساوس الشيطان»[الدرء: 3/162، 262.].
«والقرآن لا يُذكر فيه مخاطبة كل مبطل بكل طريق، ولا ذَكَر كلَّ ما يخطــر بالبال من الشبهات وجوابها؛ فإن هذا لا نهاية له ولا ينضبط».
كما لا تُذكر الشبهة ابتداءً واستقلالاً، بل يقــرر الحق، ويبيِّن الهدى بأدلته وبراهينه (النقلية والعقلية)، ثم يجيء الجواب عن الشبهات الواردة عَقِب هذا التقرير والتأصيل.
ومن مدافعة الشبهات: تحقيق اليقين، وترسيخ الإيمان؛ فإذا انشرح القلبُ بالإيمان وخالط بشاشة القلوب؛ فلا يقع انتكاس أو ارتداد. قال ابن القيم: «ومتى وصل اليقين إلى القلب، امتلأ نوراً وإشراقاً، وانتفى عنه كلُّ ريب وشك وسخط وهمٍّ وغمٍّ، فامتلأ محبة لله، وخوفاً منه، ورضاً به»[مدارج السالكين: 2/398.].
قال الله - تعالى -: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنسِ وَالْـجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ} [الأنعام: ٢١١ - ٣١١]. يقول العلاَّمة محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله -: «في هذه الآية ترتيب غريب عجيب، بالغ في الحُسْن؛ لأن السبب الأول: هو الغرور والخديعة، فتسبَّب عن الغرور والخديعة أن صغت إليه قلوبهم ومالت، ثم تسبب عن صوغ القلوب وميلها أنهم أحبوه ورضوه، ثم تسبب عن كونهم أحبوه ورضوه أن اقترفوه... والمؤمنون يعرفون زخارف الشيطان ووحيه؛ فيتباعدون منه ويجتنبونه»[العذب النمير 2/281].
ومفهوم الآية أن الإيمان باليوم الآخر يحقق مجانبة الإصغاء إلى هذا الخداع والتزويق؛ فالمؤمنون بالآخرة قد استنارت بصائرهم، فنظروا في حقائق الأمور؛ فلا يهولوهم زُخرُف القول، أو معسول الكلام.
وكذا؛ فإن تربية الأمة على الاستعلاء بالإيمان، والاعتزاز بالإسلام ولزوم السُّنة، لَيُحقق مَنَعة وسلامة من الشبهات؛ فالشبهــات تَعْلــق بالقلــوب الضعيفــة والنفوس المنهزمة؛ فهي محل قابل لتلك الشبهات، وكم جرَّت الهزيمة النفسية من ضعــف وخَوَر، وانسياق مع الشبهات، وانصياع للاعتراضات!
ومن الحقائق الإيمانية التي ينبغي استصحابها في مدافعة الشبهات أن في القرآن العظيم ما يردُّ على كل مخالف، كما قال - تعالى -: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إلاَّ جِئْنَاكَ بِالْـحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: ٣٣]. قال الإمـام أحمـد بن حنبـل - رحمه الله -: «لو تدبَّر إنسان القرآن كان فيه ما يردُّ على كل مبتدع وبدعته». كما أن أهل السُّنة يجزمون أن أهل البدع لا يكادون يحتجون بحجة سمعية أو عقلية إلا وهي عند التأمُّل حجة عليهم[مجموع الفتاوى لابن تيمية: 6/254].
ومن الأجوبة المهمة تجاه الشبهات عموماً: الاحتجاج بمحكمات الشريعة، والتمسك بجُمَل الإسلام والسُّنة؛ إذ لا يحتج بالمتشابه المحتـمـل على المحكَم القطعي الجلي إلا أهل الزيغ، وقد احتفى الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - بهذا الجواب المجمل، كما في رسالته المتينة: «كشف الشبهات».
ومن سبل المدافعة ما قرَّره يحيى العمراني (ت 558هـ) قائلاً: «ولا تزول الشبهة عن قلوب العامة إلا من حيث دخلت، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يزيل الشبهة من حيث علم دخولها». (ثم ساق الأدلة على ذلك).
ومما ينبغي مراعاته في هذا المقام: النظر في أحوال أرباب الشبهات، ومدافعتهم بالأسلوب الأقوم والملائم، والذي يحقق دفع الشبهة وإظهار السُّنة: «والألفاظ في المخاطبات تكون بحسب الحاجات، كالسلاح في المحاربات، فإذا كان عدو المسلمين - في تحصُّنهم وتسلُّحهم - على صفة غير الصفة التي كانت عليها فارس والروم، كان جهادهم بحسب ما توجبه الشريعة التي مبناها على تحري ما هو لله أطوع وللعبد أنفــع»[مجموع الفتاوى لابن تيمية: 4/107]. وقال العلاَّمة ابن الوزير (ت 840 هـ) - رحمــه الله -: «المحامي عن السُّنة، الذابُّ عن حماها كالمجاهد في سبيل الله - تعالى - يُعدُّ للجهاد ما استطاع من الآلات والعدة والقوة، كما قال - تعالى -: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} [الأنفال: ٠٦]» [إيثار الحق على الخلق، ص: 20.]. كما يُحذَّر من السِّباب والشتائم وبذاءة القلم واللسان أثناء معالجة الشبهات: «فإن الرد بمجرد الشتم والتهويل لا يعجز عنه أحد». والكلام البذيء يدل على انقطاع صاحبه وقلة علمه، (كما قال العمراني في الانتصار: 1/91. )
وعليه أن يجانب البغي والعدوان، ويتحرى العدل والإنصاف؛ «فـالإنسان إذا اتبع العدل نُصِر على خصمه، وإذا خرج عنه طمع فيه خصمه»[الدرء: 8/409.].
وليحرص على مطالعة أحوال السلف وآدابهم في التعامل مع الشبهات، وجدال المخالفين ومناظرتهم.
كما يتعين الرسوخ في العلم الشرعي، والتمكُّن من الفقه لدين الله تعالى، والدراية بأساليب الحوار، وطرائق دفع الشبهات، والدُرْبة على المحاورات والمناظرات. قال ابن عبد البر: «ليس كل عالم تتأتى له الحجة، ويحضره الجواب، ويسرع إليه الفهم بمقطع الحجة ومن كانت هذه خصاله، فهو أرفع العلماء، وأنفعهم مجالسة ومذاكرة»[جامع بيان العلم: 2/968.].
ثم إن عليه - أولاً وأخيراً - أن يستعين بالله وحده؛ فما لم يكن بالله لا يكون، وكما قال الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله -: «لكن إذا أقبلت على الله، وأصغيت إلى حججه وبيناته، فلا تخف ولا تحزن، إن كيد الشيطان كان ضعيفاً، والعامي من الموحدين يغلب الألف من علماء هؤلاء المشركين، كما قال - تعالى -: {وَإنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: ٣٧١]».
ــــــــــــــــــــ
عبدالعزيز بن محمد آل عبداللطيف