من المتفق عليه لدى جميع المسلمين أن الشريعة الإسلامية إنما تنزلت من عند الله تعالى، تحقيقاً لمصالح العباد. والمتفق عليه لدى المسلمين جميعاً منذ صدر الإسلام إلى يومنا هذا، أن سائر المصالح الإنسانية تندرج في المقاصد الخمسة التي تضمنها كتاب الله تعالى بصريح البيان. وهي على هذا الترتيب: الدين ، فالحياة، فالعقل، فالنسل، فالمال. وهيهات أن تجد مصلحة ما، من المصالح الحقيقية للإنسان شاردة عن هذه المقاصد الخمسة. دلت على ذلك تحريات الباحثين على اختلاف عقائدهم، جيلاً بعد جيل، إلى هذا اليوم.
ونفاجأ اليوم بمن يزعم، جهاراً على الملأ، أن هذه المقاصد الخمسة ليست وافية بمصالح الناس، ومن ثم فلا بدَّ من أن يضاف إليها ما يتممها، وهو مقصد العدل والمساواة!!..
أقول: ولا أشك في أن الذين فاجؤوا العالم الإسلامي بهذا الزعم العجيب بعد خمسة عشر قرناً من نزول القرآن، استبطنوا زعماً آخر يتبنونه سراً، وهو نبذ المقصد الأول من المقاصد الخمسة وطرحه عن الاعتبار، ألا وهو مقصد الدين، ذلك لأن ديناً لا يتضمن فيما يتضمن رعاية العدالة والمساواة الإنسانية، لا فائدة منه، ولا مفرّ من الاستغناء عنه!!..
ما هي العدالة؟
ألا، فاسألوا هؤلاء المتنطعين: ما هي العدالة؟ هل هي إلا حماية الحياة والعقل والنسل والمال من العدوان عليها؟.. وهل بوسع متنطعي العالم كله أن يضيفوا إلى هذا المضمون لمعناها أي زيادة عليه؟ ألا فليعتصر أصحاب هذا الزعم المتنطّع عقولهم، وليستعينوا بأمثالهم من ذوي الفكر والحجى، ثم ليكتشفوا لنا هذا المزيد وليقولوا لنا، أين هو وما هو!!..
ثم ليعلموا – إن كانوا جاهلين – أن كل مقصد من هذه المقاصد الخمسة، يتدرج تطبيقه، في أحكام الشريعة الإسلامية ، بدءاً من درجة الضروريّ، فالحاجيّ، فالتحسينيّ.
وهكذا، فإن شبكة المقاصد القرآنية تتألف من خمسة مقاصد مرتبة عمودياً، يتدرج تطبيقها خلال ثلاث وسائل أفقية. فأنت منها أمام سلّم أولويات يتكون من خمس عشرة درجة، ينبثق منها أدقّ ميزان لأسما ما تتطلع الإنسانية إليه، من الحياة الآمنة المكلوءة بسياج الحق والعدل، ضمن التنسيق الذي يتطلبه الحق والعدل.
ثم يأتي من يتعامى عن هذه الحقيقة المتميزة التي بهرت عقول الأجيال، معلناً للناس، أنها مقاصد ناقصة، أُغْفِلَ عنها مقصد العدل!!..
إذن فما هي الغاية التي تهدف إليها هذه المقاصد بأولوياتها المتدرجة، وما هي الفائدة المرجوَّة منها، بعد أن غاب عنها مقصد العدل؟!.. ولماذا لا تلغى من الاعتبار؟!..
بقي أن تعلم أن هذه الجرأة العجيبة التي فوجئ بها العالم الإسلامي، لم تصدر من أفكار علمانية، ولا من رؤوس تستهين بالقرآن الذي هو المصدر الأول لشبكة هذه المقاصد "فحسب". ولكنها انبثقت ـ أيضا ـ من أفواه تدعي أنها تنتسب إلى الدين.
وإني لأقول لشعوب هذا العالم الإسلامي الجريح: حاذروا على إسلامكم من مدعي العلم وأرباب الثقافة الزائفة، أولئك الذين يتخذون من الإسلام مطية ذلولاً لأهوائهم ومغانمهم وطموحاتهم الدنيوية، قبل أن تحاذروا عليه من أعدائه التقليديين وخصومه المحترفين. وصدق من قال: من مأمنه يُؤتى الحذر!..
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الشيخ البوطي