معركة بدر من المعارك الفاصلة في تاريخ الإسلام، وقد عرفت في القرآن الكريم بيوم الفرقان، لأنها فرقت بين الحق والباطل، وكان لها أثرها الكبير في إعلاء شأن الإسلام،وتعتبر هذه الغزوة المباركة يوماً عظيماًً من أيام التاريخ الإسلامي، حيث كانت البداية لظهور المسلمين وعلوّهم، وكل انتصارٍ للمسلمين سيظل مديناً لبدر، التي كانت بداية الفتوح والانتصارات الإسلامية .
وقد التقى في هذه المعركة المقهور بقاهره فشفي منه غيظه، وانتهت بخسارة فادحة لقريش، فقد قٌُتل سبعون رجلاً من أشرافهم، وأُسر منهم سبعون، وكان ممن قٌُتِل وأُسِر أبو جهل بن هشام وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط، وغيرهم من أئمة الكفر والضلال، وقد كان في قتلهم دليلا من دلائل نبوة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
فمن دلائل نبوته ومعجزاته ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما أُطْلِع عليه من الغيوب الماضية والمستقبلية وإخباره عنها، وكما جاءت الأدلة على أن الله تبارك وتعالى قد اختُص بمعرفة علم الغيب وحده، جاءت أدلة أخرى تفيد أن الله تعالى استثنى من خلقه من ارتضاه من الرسل، فأعلمهم ما شاء من غيبه، وجعله معجزة لهم، ودلالة صادقة على نبوتهم، قال الله تعالى: { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً . إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً }(الجـن:27:26).
ومن الأمور الغيبية التي أخبر عنها النبي ـ صلى الله عليه سلم ـ ووقعت أثناء حياته إخباره عن مصارع الطغاة في يوم بدر . ففي اليوم السابق ليوم بدر، تفقد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أرض المعركة المرتقبة، وجعل يشير إلى مواضع مقتل المشركين فيها ..
فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: ( كنا مع عمر بين مكة والمدينة فتراءينا الهلال، وكنت رجلا حديد البصر، فرأيته وليس أحد يزعم أنه رآه غيري، قال فجعلت أقول لعمر : أما تراه؟، فجعل يقول لا يراه، قال: يقول عمر : سأراه وأنا مستلقٍ على فراشي . ثم أنشأ يحدثنا عن أهل بدر، فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس، يقول: هذا مصرع فلان غدًا إن شاء الله، قال: فقال عمر : فو الذي بعثه بالحق ما أخطؤوا الحدود التي حد رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ )( مسلم ).
وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل ذلك في مكة قد دعا عليهم بأسمائهم، كما ذكر ذلك مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ( .. اللهم عليك بأبي جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عقبة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط، وذكر السابع ولم أحفظه، فوالذي بعث محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالحق، لقد رأيت الذين سمى صرعى يوم بدر، ثم سُحِبوا إلى القليب قليب بدر )..
مصرع أبي جهل بن هشام
قال عبد الرحمن بن عوف ـ رضي الله عنه ـ : ( بينما أنا واقف في الصف يوم بدر، نظرت عن يميني وشمالي، فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما، تمنيت لو كنت بين أضلع منهما، فغمزني أحدهما فقال: يا عم هل تعرف أبا جهل؟، قال: قلت: نعم، وما حاجتك إليه يا ابن أخي؟، قال:أُخبِرْت أنه يسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده، حتى يموت الأعجل منا . قال: فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر فقال مثلها. قال: فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس فقلت: ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألان عنه، قال:فابتدراه بسيفيهما حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبراه، فقال: أيكما قتله؟، فقال كل واحد منهما: أنا قتلته، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: كلاكما قتله، وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح . والرجلان معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعاذ بن عفراء ) ( البخاري ) .
لقد كان الدافع من حرص الأنصاريين الشابين على قتل أبي جهل ما سمعاه من أنه كان يسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهكذا بلغت محبة شباب الأنصار لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بذل النفس في سبيل الانتقام ممن تعرض للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالأذى.
وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم بدر : ( من ينظر ما فعل أبو جهل؟، فانطلق ابن مسعود فوجده قد ضربه ابنا عفراء حتى برد، فأخذ بلحيته فقال : أنت أبا جهل؟ قال: وهل فوق رجل قتله قومه؟، أو قال : قتلتموه )( البخاري ).
لقد كان أبو جهل شديد الأذى للمسلمين في مكة، وكم لاقى المسلمون من إيذائه واستهزائه، وظل مستكبراً جباراً حتى وهو صريع وفي آخر لحظات حياته، فشاء الله تعالى أن يكون الذي يقضي على آخر رمق من حياة هذا الطاغية هو أحد المستضعفين . فأبقاه الله مصروعاً في حالة من الإدراك والوعي، بعد أن أصابته ضربات الغلامين، ليريه بعين بصره ما بلغه من المهانة والذل على يد من كان يستضعفه ويؤذيه ويضطهده بمكة ..
ومن ثم فليستبشر أئمة الكفر في كل زمان ومكان، بهذه النهاية الذليلة المشؤومة،ـ إن لم يتوبوا إلى ربهم ـ، فالله عز وجل يمهل ولا يهمل، كما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( إن الله ليُمْلي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ) ( البخاري ) .
قتل أمية بن خلف
عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ , قال : ( انطلق سعد بن معاذ معتمرا, قال : فنزل على أمية بن خلف أبى صفوان، وكان أمية إذا انطلق إلى الشام فمر بالمدينة نزل على سعد ، فقال أمية لسعد : انتظر حتى إذا انتصف النهار وغفل الناس انطلقت فطفت؟، فبينا سعد يطوف إذا أبو جهل, فقال: من هذا الذي يطوف بالكعبة؟ّ!، فقال سعد أنا سعد ، فقال أبو جهل : تطوف بالكعبة آمنا، وقد آويتم محمدا وأصحابه؟!، فقال : نعم, فتلاحيا بينهما , فقال أمية لسعد : لا ترفع صوتك على أبى الحكم، فإنه سيد أهل الوادي. ثم قال سعد : والله لئن منعتني أن أطوف بالبيت لأقطعن متجرك بالشام , قال : فجعل أمية يقول لسعد : لا ترفع صوتك وجعل يمسكه، فغضب سعد فقال : دعنا عنك، فإني سمعت محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ يزعم أنه قاتلك, قال: إياي؟!، قال : نعم. قال والله ما يكذب محمد إذا حدث . فرجع إلى امرأته فقال : أما تعلمين ما قال لي أخي اليثربي؟, قالت: وما قال؟، قال : زعم أنه سمع محمدا يزعم أنه قاتلي، قالت: فو الله ما يكذب محمد. قال : فلما خرجوا إلى بدر وجاء الصريخ قالت له امرأته: أما ذكرت ما قال لك أخوك اليثربي؟, قال : فأراد أن لا يخرج فقال له أبو جهل: إنك من أشراف الوادي، فسر يوما أو يومين، فسار معهم , فقتله الله ) ( البخاري ) .
ويكمل لنا عبد الرحمن بن عوف ـ رضي الله عنه ـ مشهد قتل أمية بن خلف فيقول: ( كاتبت أمية بن خلف كتابا بأن يحفظني في صاغيتي(أهلي ومالي) بمكة وأحفظه في صاغيته بالمدينة، فلما ذكرت الرحمن قال: لا أعرف الرحمن كاتبني باسمك الذي كان في الجاهلية، فكاتبته عبد عمرو، فلما كان في يوم بدر خرجت إلى جبل لأحرزه(أحميه) حين نام الناس، فأبصره بلال ، فخرج حتى وقف على مجلس من الأنصار، فقال: أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا أمية، فخرج معه فريق من الأنصار في آثارنا، فلما خشيت أن يلحقونا خلفت لهم ابنه لأشغلهم فقتلوه، ثم أبوا حتى يتبعونا، وكان رجلا ثقيلا، فلما أدركونا قلت له: ابرُك، فبرك، فألقيت عليه نفسي لأمنعه فتخللوه بالسيوف من تحتي حتى قتلوه، وأصاب أحدهم رجلي بسيفه، وكان عبد الرحمن بن عوف يرينا ذلك الأثر في ظهر قدمه ) ( البخاري ).
إن فيما حدث لأبي جهل وأمية بن خلف من قتل مفزع عبرة للذين يغترون بقوتهم، وينخدعون بجاههم ومكانتهم، فيعتدون على الضعفاء، ويسلبونهم حقوقهم، ويصدون عن سبيل الله، فمآلهم إلى عاقبة سيئة ووخيمة في الآخرة، وقد يمكن الله للضعفاء منهم في الدنيا، كما حدث لأمية بن خلف وأبي جهل من طغاة الكفر في بدر، قال الله تعالى:{ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ } (القصص :5).
والعجب كل العجب من يقين أمية وزوجته بصدق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتحقق وعيده، وخوفهما من ذلك، ثم عدم إيمانهما برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وصدق الله تعالى: { فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ }(الأنعام: من الآية33).
إن ما وقع على لسان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الإخبار بالمغيبات كثير، وذلك بوحي من الله تعالى، للدلالة على نبوته ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وكان لأحداث غزوة بدر نصيب من تلك المعجزات الغيبية ..