بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه....أما بعد:
فكيف تطيب نفس من قعد وقد انطلق الركب يلبي (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) يجيبون هذا النداء العلوي (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتي من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق).
إن النفوس المؤمنة تمتلئ شوقا ويدفعها الحنين تجاه بيت الله الحرام (ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون)، فلا صبر على فراق الطاعات.
وقد حكى لنا سبحانه قصة السبعة الذين أرجعهم النبي صلى الله عليه وسلم عن غزوة تبوك عندما سألوه الدواب ولم يجد ما يحملهم عليه، قال تعالى: "ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون" رجعوا وهم يبكون على الرغم من أنهم كانوا معذورين، والحج فيه معنى الجهاد في سبيل الله، ففي الحديث (جهاد الكبير والصغير والضعيف والمرأة: الحج والعمرة)، وورد عنه صلى الله عليه وسلم (النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله بسبعمئة ضعف)، وقد فسر العلماء قوله تعالى: "والعاديات ضبحا . فالموريات قدحا . فالمغيرات صبحا . فأثرن به نقعا . فوسطن به جمعا" الآيات.. بأنها في المجاهدين أو حجاج بيت الله الحرام. فما أكثر أوجه الشبه بين الجهاد والحج.
فالمسلم يجد في نفسه ألما إذا حيل بينه وبين الحج والعمرة، وافتقد القدرة والاستطاعة، وود لو سار إلى بيت الله الحرام ولو على رأسه ويبذل مهجته، فكيف تهدأ نفسه إذا قعد مع السعة، ولذلك روي عن علي رضي الله عنه: "من قدر على الحج فتركه فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا"، وقال عمر رضي الله عنه: "لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار فينظروا كل من له جدة (سعة من المال) ولم يحج ليضربوا عليهم الجزية؛ ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين".
شبهات مدحوضة
وما أكثر الشبهات التي حالت دون وقوع الحج والعمرة، وقديما قالوا: "ما عصي الله إلا بالتأويل".. فمن متوهم أنه سيفتقر بحجه وعمرته!! ومن متحجر للواسع وعاتب بشدة على من رآه يكرر الحج والعمرة!! وكأنه اقترف معصية!! ومن زاهد في الأجر والثواب يقول قد حججت واعتمرت، وكأنه شبع وقضى وطره من معاني الرحمة، أو ضمن الجنة.....
أين هؤلاء وغيرهم من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة)؟ وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة"، وفي الحديث: "الحجاج والعمار وفد الله إن دعوه أجابهم وإن استغفروه غفر لهم"، وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "يارسول الله نرى الجهاد أفضل الأعمال أفلا نجاهد؟ قال: لكنّ أفضل الجهاد: حج مبرور".. وفي بعض الروايات: "لكنّ أحسن الجهاد وأجمله: الحج حج مبرور".
قالت عائشة رضي الله عنها: فلا أدع الحج بعد إذ سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهل يأبى البعض بعد ذلك أن يبخل على نفسه بأجر وثواب، وهل يليق به بعد ذلك أن يثير الشبهات أو أن يزهد الآخرين في طاعة ربهم؟!!.
ولنعلم أن جنس الحج والعمرة أفضل من جنس الصدقة كما قال ابن تيمية وغيره، لقد مرت بنا سنوات كان الناس يعتبون فيها بشدة على الشباب إذا رأوهم يحجون أو يعتمرون وكأنهم لا تكليف عليهم، وكانت الكثرة ترى أنها طاعة قاصرة على الشيوخ والعجائز!! وقد روي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تعجلوا إلى الحج ـ يعني الفريضة ـ فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له"، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : "أن امرأة رفعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيا فقالت ألهذا حج؟ قال نعم ولك أجر".
بعث إيماني
إن الأمة اليوم تمر بحالة بعث إيماني على مستوى الكبير والصغير والرجل والمرأة، نشاهد آثاره في المساجد وفي الحج وفي طبيعة الأسئلة.
إن التدين اليوم يعبر عن فقه وبصيرة عند الكثرة بمعنى أنه لم يعد عبارة عن مجرد حماسة وعاطفة، وهذا يستحثنا على بذل الطاقة والوسع في استثمار هذا الإقبال على طاعة الله وهذه الانطلاقة الإيمانية في تعبيد الخلائق بدين الله وتحبيب الكل في شرع الله.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.