في زحمة الحياة واشتداد صخبها وتوالي حوادثها وكَرِّ أيامها ينسى الإنسان كثيرا وتتابع حلقات الإنسان لتغل العنق بأغلال الأرض ويلتصق بها مؤثرا إياها بل ربما يجعلها الآخرة والأولى والمبدأ والمنتهى، من هنا جاءت أهمية الذكرى لتنقشع غمامات الغفلة عن عين البصيرة ومدرك الحقيقة، وللسلف رضوان الله عليهم وهم القدوة حالات تُنبئُ بآثار اليقظة، ذكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما أصاب الناس من الدنيا، فقال: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يظل اليوم يلتوي ما يجد من الدَّقَلِ ما يملأ به بطنه." والدقل هو رديء التمر.
ومر أبو هريرة رضي الله عنه بقوم بين أيديهم شاةٌ مصليّةٌُ، فدعوهُ فأبى أن يأكل، وقال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير.
وتتكرر هذه الحالات في صور شتى ومواقف مختلفة وللذكرى بريقها وبرقها، بها نأمل ونتأمل، ثم أليس من حق الروح أن تحلق في سماء الوفاء؟!! إذا أردت ذلك فما عليك إلا أن تصاحبنا في لمحات من يقظة القلب وبصيرة العقل وحياة الروح مع هذا الحديث:
قالت عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم: "لما أُمِرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه بدأ بي فقال: " إني ذاكرٌ لك أمرا، فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك" قالت: وقد علم أن أبواي لما يكونا يأمراني بفراقه، قالت: ثم قال: إن الله جل ثناؤه قال: "يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها ـ إلى قوله ـ أجرا عظيما" ، قالت : فقلت: ففي أي هذا أستأمر أبويّ، فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة. قالت: ثم فعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مثلما فعلت". أخرجه البخاري ومسلم.
اختار النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه ولأهل بيته معيشة الكفاف، لا عجزا عن حياة المتاع وإنما استعلاء بنفس توقن أن الآخرة خير لها من الأولى وأنها الأبقى، جاءه جبريل عليه السلام بمفاتيح خزائن الأرض فعف عنها وتركها وآثر الآخرة عليها، كان ينفق ولا يخاف فقرا، يعطي عطاء اليقين وهو أجود بالخير من الريح المرسلة وكان يقول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "أبشروا وأملوا ما يسركم فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم".
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينأى بنفسه وآل بيته أن ينافسوا أحدا في ديناه ولو بتشرف نفس لأن ربه سبحانه علمه وأدبه ونهاه بقوله سبحانه: "ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى".
فالحياة الدنيا وما فيها من متاع وما يحوطها من زخارف ووشى زهرة والزهرة ستذبل بعد حين بعد الابتلاء بها والمحنة برواقها وروائها، أما رزق الله سبحانه له فهو نعمة بلا فتنة.
قال في الظلال: دعوة إلى الاعتزاز بالقيم الأصيلة الباقية وبالصلة بالله والرضى به. فلا تتهاوى النفوس أمام زينة الثراء، ولا تفقد اعتزازها بالقيم العليا، وتبقى دائما تحس حرية الاستعلاء على الزخارف الباطلة التي تبهر الأنظار...ولكن نساء النبي صلى الله عليه وسلم كن نساء من البشر، لهن مشاعر البشر، وللبشر حاجات وزينة من مال ومتاع ونفقة اجتمعن يسألنه صلى الله عليه وسلم النفقة فأصابه من الأسى ما أصابه حتى احتجب صلى الله عليه وسلم عن أصحابه.
وأقبل أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس بباه جلوس فلم يؤذن له، ثم أقبل عمر ـ رضي الله عنه ـ فاستأذن فلم يؤذن له. ثم أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما فدخلا والنبي صلى الله عليه وسلم جالس وحوله نساؤه وهو صلى الله عليه وسلم ساكت فقال عمر: لأكلمنّ النبي صلى الله عليه وسلم لعله يضحك. فقال يا رسول الله لو رأيت ابنة زيد ـ امرأة عمر ـ سألتني النفقة فوجأت عنقها! فضحك صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه وقال: " هن حولي يسألني النفقة"! فقام أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ إلى عائشة، وقام عمر ـ رضي الله عنه ـ إلى حفصة، كلاهما يقولان: "تسألان النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده؟! فنهاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلن: والله ما نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذا المجلس ما ليس عنده، ونزلت آية التخيير.
بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بحبيبته عائشة ـ رضي الله عتها ـ فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة وقالت: أسألك ألا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت، فأجابها صلى الله عليه وسلم: لا تسألني امرأة منهن عما اخترت إلا أخبرتها.
انطلاقة من هواتف الأرض وتحررا، كلهن رضي الله عنهن اخترن الله ورسوله والدار الآخرة.
ملامح من عواطف الحب وومضات الإيثار في اليقين بما عند الله للصالحات القانتات، " ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين، وأعتدنا لها رزقا كريما".
صورة من السيرة فهل يا ترى تسافر أرواحنا لنعايش شيئا من جمالها ولملم القلوب حولها، وأخيرا: الصبر لله غناء وبالله تعالى بقاء، وفي الله بلاء، ومع الله وفاء، وعن الله جفاء، فاصبروا في الله، وصابروا في الله، ورابطوا مع الله.