إن أعمار بني الإسلام قصيرة بالنسبة إلى أعمار غيرهم من الأمم الأخرى ، فلو نظرت إلى أعمار الأمم السابقة لوجدتها أكبر ، فنبي الله نوح عليه السلام دعا قومه ألف سنة إلا خمسين عاما ، فكم كان عمره؟وكم كان متوسط أعمار أمته؟.
أما هذه الأمة فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن أعمار بنيها بقوله: " أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين ، وأقلهم من يجوز ذلك".
والعبد إذا مات أغلق باب العمل فإذا لم يكن قد ترك أثرا صالحا فكأنه لم يمر بهذه الدنيا
وما المرء إلا كالهلال وضوئه يوافي تمام الشهر ثم يغيب
ولكن من رحمة الله تعالى بهذه الأمة أن فتح لها من أبواب الخير والأجر ما تعوض به قصر العمر، فمن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، بل هي بنص القرآن: (خير من ألف شهر).
ومن صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم،والأدلة على هذا كثيرة جدا.
ومن جملة ما أكرم الله به هذه الأمة أن أجرى على بنيها بعد مماتهم ثواب الأعمال الصالحة التي تركوها وانتفع بها الناس. ومن جملة هذه الأعمال ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة : إلا من صدقة جارية . أو علم ينتفع به . أو ولد صالح يدعو له ".
ومنها ما ورد في الحديث الذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم : " إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره، أو ولدا صالحا تركه، أو مصحفا ورثه،أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته".
وإذا كان الله تعالى قد قال في كتابه العزيز : (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ).(يـس:12).
فإن من رحمة الله بالعبد أنه إذا مات ماتت معه سيئاته ،وإلا فإن بعض الناس يموتون ويقبرون ولكن تكتب في صحائف سيئاتهم بعد مماتهم سيئات كالجبال نتيجة تركهم أعمالا لم يتوبوا منها ويُعصى بها الله تعالى، وإن شئت أمثلة على ذلك فانظر في كتابات بعض الكتاب العلمانيين المحادين لله ورسوله، وانظر إلى كثير من الأفلام الماجنة الفاجرة ، والأغنيات ...إلخ.
وعلى الجانب الآخر فهناك الموفقون الذين تقربوا إلى الله تعالى بأعمال صالحات بقي أثرها في الناس يُجري الله عليهم ثوابها بعد موتهم، وانظر إلى العلماء الذين تركوا علما ينتفع به من خلال مؤلفاتهم ومحاضراتهم وتلامذتهم،فمن منا يستغني عن فقه الأئمة الأربعة؟ ومن منا يستغني عن صحيح البخاري ؟ومن منا لا يعرف ابن تيمية وابن كثير وغيرهم من جبال العلم وبحوره الذين خلفوا لنا تركة عظيمة تنتفع بها الأمة جيلا بعد جيل؟ومن منا لا يعرف صلاح الدين الأيوبي الذي حرر بيت المقدس وطهره من دنس الصليبيين؟نسأل الله أن يقيض له من يحرره اليوم من دنس اليهود.
وقد سطرت لنا كتب السير والتاريخ أعمالا كبيرة لرجال عظماء لا يزال يجري عليهم ثوابها وقد ماتوا منذ مئات السنين.
فالصحابة الكرام الذين فتحوا بلاد الكفر ونشروا فيها أنوار التوحيد لا يزال يكتب في صحفهم ثواب ما يفعله أهل هذه البلاد من طاعات وقربات من غير أن ينقص من أجور أصحابها شيء.فأهل الشام مثلا يأتون في صحائف حسناتهم وصحائف الصديق أبي بكر والفاروق عمر وذي النورين عثمان وأبي عبيدة وخالد بن الوليد ومعاوية وغيرهم ممن كانوا معهم من القادة والجند،وأهل مصر تكتب حسناتهم في موازينهم وموازين عمر وعثمان وعمرو بن العاص وغيرهم من الأكابر.
وأهل القرآن الذين علموا أبناء المسلمين كيف يقرأون القرآن ويرتلونه وانتقل ها العلم بين المسلمين جيلا بعد جيل يكتب ثواب هذه القراءة في صحف أبناء هذه السلسلة المباركة.ولك أن تتخيل كم يكتب في موازينهم يوميا خصوصا إذا علمت أن حروف القرآن تزيد على ثلاثمائة ألف حرف والحرف بعشر حسنات،نسأل الله الكريم من فضله.
وأريد أن أعرض عليك أيها القارىء الكريم نموذجا لعمل صالح بقي أثره في الناس مئات السنين قامت به امرأة صالحة هي أمة العزيز زوج هارون الرشيد التي عرفت في التاريخ بزبيدة، تلك المرأة التي حجت بصحبة زوجها هارون الرشيد رحمه الله تعالى ولم يكن بمكة غير ماء زمزم ، فلما رأت شدة حاجة الناس هناك إلى الماء والمشقة التي تلحقهم إذا احتاجوا إلى جلبه أمرت خازن مالها أن يأخذ ما يحتاج من المال وأن يستعين بأفضل المهندسين وأن يذهب إلى مكة ليفجر بها عين ماء حلوة ثجاجة لا تغيض وأن ينقل ماءها إلى منطقة المشاعر ليرتوي منها الحجيج ويأخذوا من الماء ما يحتاجون ،فنفذ الأمر وقام بالمهمة خير قيام فأجرى المهندسون المسلمون عين ماء من جبال الطائف إلى مكة وأمدوها بالآبار والعيون وأقاموا الاستراحات وسميت في التاريخ بعيون زبيدة ، ولا تزال آثارها باقية إلى اليوم،ومن الجدير بالذكر أن هناك محولات لإحيائها والإفادة منها ولعل هذا من آثار نيتها الصالحة رحمها الله تعالى.
فيا أيها الحبيب ما هو مشروعك الكبير الذي تتركه مؤملا أن يكتب في صحيفتك بعد مماتك؟
هل تركت للأمة ولدا صالحا؟أو أقرأت أبناء المسلمين القرآن؟أو تركت وقفا؟ أو حفرت بئرا؟أو بنيت مسجدا؟.
هل لك من أثر؟.