مع هبوب رياح العولمة وانتشار الفضائيات وتغلغل الإنترنت في المجتمعات العربية والإسلامية، بدأ الجميع يلاحظ صحوة إعلامية في أوساط الإسلاميين، تمثلت في اقتحام عالم الإعلام والذي كان حتى وقت قريب حكرا على العلمانيين والقوميين وبعض الوطنيين، لكن هذه الصحوة الإعلامية الإسلامية لم تكن وفق القواعد والأسس العلمية والمهنية.
الموهبة ضرورة:
والدخول في المجال الإعلامي يتطلب - بالضرورة - وجود الموهبة، ورغم التفاوت في تقدير قيمة الموهبة في الجانب الإعلامي إلا أنها ينبغي ألا تقل عن 50%، على أن يقوم الإعلامي الناشئ (أي المبتدئ إعلاميا وإن كان كبير السن) بإكمال موهبته من خلال التجربة الحية والتدريب والتوجيه وصقل موهبته من خلال العمل.
وتدرك الكثير من المؤسسات الإعلامية العالمية أهمية الموهبة، وتقوم باختبارات متعددة للمتقدم بحسب طبيعة الوظيفة الإعلامية التي سيشغلها، كما توضع للملتحقين بتلك المؤسسات مجموعة من البرامج التدريبية المنظمة على رأس العمل، فضلاً عن المساعي الذاتية التي يقوم بها الإعلامي نفسه في رفع كفاءته ومستواه المهني من خلال تطوير الجانب المعرفي، والصورة البصرية، والعلاقات الإنسانية، والمشاركة في الفعاليات والملتقيات التي تتناول الشأن الإعلامي، والاقتراب من الناجحين وأصحاب الخبرة .
ومن هنا يأتي الحديث عن دخول الإسلاميين في المجال الإعلامي والذي وصفته بأنه لم يكن سائراً وفق الأسس المهنية أو العلمية، فللنجاح الإعلامي معايير يفتقدها الكثيرون من أولئك، ولعل من أسباب ذلك أن دخولهم في مجال الإعلام كان عرضيا من دون تخطيط، وقد يكون السبب - أحياناً - رغبة أولئك المصلحين في تحقيق أهدافهم بأقصر وأسرع السبل دون التحقق من مناسبتها لهم أو افتقارهم للمقومات الشخصية الضرورية أصلا.
مراعاة التخصص:
ومن أسباب الفشل الواضحة رغبة البعض في الدخول لكافة المجالات الإعلامية والإدلاء فيها بدلو، فترى الواحد كاتبا صحفيا، ومقدماً لبرامج تلفزيونية، ومديراً لمشروع إعلامي، ومنتجاً للبرامج، وهذا التشتت غير موجود لدى محترفي الإعلام في المؤسسات الغربية، فتجد فيها المقدم التلفزيوني الذي شاب في برنامجه الناجح، وتجد المتخصص في الإدارة الإعلامية والذي لا يظهر على الشاشة أبدا، كما تجد الكاتب المحترف والذي يندر أن ترى له حواراً مرئياً.
وذلك إنما كان لمراعاة التخصص، والتركيز الذي يورث التميز دوماً، فالإعلام المعاصر قد توسعت مجالاته وتعقدت طرائقه، وتنوعت أساليبه، لذا احتاج مرتادوه إلى المزيد من التركيز بذل الوقت الكافي لأجل هذا الجانب التخصصي، ولا يمكن أن يكون الإعلام هو لإزجاء وقت الفراغ فحسب، فمن شان عدم الاهتمام أن يحجب النتائج الايجابية.
عندما ولج الإسلاميون مجال الإعلام كانوا كالعطشى الذين جاءوا من صحراء قاحلة مقفرة، فوجدوا غديراً من الماء العذب فهجموا يعبون منه ما استطاعوا، فمنهم من مات من شدة الصدمة، ومنهم من مرض لعدم قدرته على تحمل هذه الكمية من المياه، وبقي ندرة قليلة أخذوا بقسط يسير وبتؤدة وتدرج حتى زال عنهم الظمأ وسكنت أرواحهم .
لم يكن دخول الإسلاميين (في معظم الأحوال) دخولاً مدروسا ولا مقننا وليس ضمن خطة استراتيجية، كما لم توفر له الكوادر المتخصصة ولم يدرب له الشباب المؤهل، فالبعض منهم لم يكن مهيئا للإعلام، والبعض الآخر لم يكن مناسبا للإعلام أبدا، ومع ذلك كان الجميع يريد المشاركة بأي صورة " وللشاشة فتنه كما المال قلما من سلم منها".
البعض من طلبة العلم ليس يصلح سوى للتدريس في حلقات العلم في المساجد، ومع ذلك رأينا بعض هؤلاء على الشاشة وهم يظنون أن الملايين تتابعهم مع افتقادهم لأبجديات الظهور الإعلامي، ولربما رأيت مديراً لإنتاج البرامج في قناة من القنوات لم يطلع على أي قناة تلفزيونية عربية أو أجنبية، معتمداً في وصوله لهذا المنصب على علاقاته الاجتماعية القوية ورغبته الجامحة، وقد تجد داعية من الدعاة لم يتجاوز مرحلة الظهور الإعلامي، وقد بات يهم بإنشاء قناة تلفزيونية ينافس بها الآخرين، مع أنه لا يعرف شيئاً عن أبجديات البث التلفزيوني، وربما وجدت الخطيب المفوه يتحدث مع هذا وذاك كي يصبح كاتباً صحفياً في أحد الصحف واسعة الانتشار بنفس أسلوب الخطبة التي كان يهز بها أعواد المنابر "وللنجومية سحرها".
سألني أحدهم عن المقدم فلان في قناة معروفة فقلت له: هو متميز في التقديم الإذاعي وهو ليس كذلك باعتباره وجهاً تلفزيونياً، لكن من حوله غشه في هذا الأمر ولم ينصفه، وقد رأيت شخصية شهيرة لها العديد من البرامج المسموعة المتميزة، لكن ظهورها على الشاشة لم يكن موفقاً وكان لسان حال البعض: ليته بقي خلف المايكروفون.
ما أفضل شخصية إسلامية تظهر على الشاشة حاليا؟!
هكذا بادرني احد الأفاضل فأجبته :
لن أذكر لك اسماً محدداً (رغم أن في جعبتي العديد من الأسماء) لكنني أاقترح عليك أن تخفض الصوت تماما فإن شدك الرجل من خلال الصورة فحسب، فهو من تريد، وإن أصابك بالملل فهو غير ناجح على الشاشة.
جاءني أحد الأحبة وهو يكتب في إحدى الصحف بشكل منتظم واستشارني في طلب أحد القنوات الإسلامية منه أن يعد ويقدم أحد البرامج التلفزيونية فيها، فسألته: هل تريد الصراحة أم المجاملة! فأجابني: بل المصارحة، فقلت له: إن صورتك وهيئتك لا تصلح للشاشة، ومن الممكن أن تكون ضيفا في أحد البرامج لكن العمل في تقديم برنامج تلفزيوني غير مناسب لك إطلاقاً.
فبدا لي أنه انزعج قليلاً من هذا الرأي، فطلبت منه التفكير في الموضوع بروية، ثم التقيته بعد مدة وأفادني بأنه ألغى فكرة الظهور التلفزيوني معتقداً صواب رأيي. فأوصيته بأن يستمر في مجال الكتابة الصحفية حاثاً إياه على تطوير قلمه وتحسين مهاراته في هذا المجال المهم.
لقد شد الإعلام المعاصر الإسلاميين فدخلوا فيه مستعجلين دون أدوات كافيه فكثرت منهم الأخطاء والزلات وأعطوا - أحيانا - انطباعا سلبيا عن الصحوة الإسلامية بالكامل.
لقد أصبح العمل الإعلامي اليوم قوة هائلة في المجال الاجتماعي والثقافي وبالخصوص في المجتمعات النامية (الإسلامية) وما لم نمتلك أدواته - بشكل صحيح - فستستمر مسيرتنا في التخبط - وقد تفيد تلك التخبطات بشكل جزئي، لكنها لن تبني قواعد مؤثرة بشكل ملموس - وستكون النتيجة أموالا مهدرة وطاقات ضائعة وتأثيراً محدوداً .
ومع ذلك كله فهناك بوادر ايجابية ناشئة، قد لا تكون قوية في بدايتها، لكنها جادة ومتحمسة، انتبهت للواقع وبدأت تدرك الإعلام بشكل مهني، وتحاول قيادة الدفة والسيطرة على الحصان الجامح، وظني أنها سوف تنجح في عملها، لكنها ستأخذ وقتا أطول، وستكون في صراع مع العديد من المخالفين، حتى تثبت نفسها في هذا المجال، وتحقق أهدافها وأهداف الأمة معها فانتظروها!
ــــــــــــــ
د.مالك الأحمد (المصريون)