للقراءة الحجازية صدى خاص لدى محبي القرآن الكريم في مشارق الأرض ومغاربها، لما تتميز به من أسلوب فريد، يختلف عن تلاوات أخرى كتلك التي تميز قراء أرض الكنانة.. وحينما نتحدث عن القراءة الحجازية لابد أن يقفز إلى الأذهان اسم الشيخ "عباس مقادمي" باعتباره أحد الرواد الذين قضوا حياتهم حاملين لآيات الذكر الحكيم في كل مراحل هذه الحياة.
واسمه كاملاً: عباس محمد عباس مقادمي قرويش ذويبي الثبيتي ونسبه من بني سعد ولد سنة ألف وثلاثمائة واثنين وأربعين هجرية في مكة الموافق:1921م ،كان كأي طفل صغير يشع مرحاً وبسمة، لكنه أصيب في سن الثالثة من عمره بمرض الجدري في وجهه، وقتها لم يكن هناك إمكانات طبية للتعامل السريع مع هذا المرض، ما تسبب في فقدانه البصر وهو طفل لم يتجاوز الثالثة.
في نور القرآن في حي سوق الليل بمكة المكرمة تعايش مع واقعه الجديد في كنف والده الذي أراد أن يعوض نور البصر بنور الذكر الحكيم، فعهد به إلى عدد من الشيوخ البارزين في حفظ وتلاوة القرآن الكريم، وكان على رأسهم شيخ القراء الشيخ أحمد حجازي رحمه الله، والشيخ محمد سعيد بشناق، والشيخ سعد عون، والشيخ جعفر جميل، والشيخ محمد عبيد وفي الفقه والحديث السيد علوي عباس مالكي ؛ وهؤلاء المشايخ ساهموا في تكوين هذه الشخصية القرآنية الفذة .
ساهمت شخصية الصبي "عباس" المحبة للقرآن، فضلاً عن سرعة البديهة والاستيعاب في أن يتخطى حاجز الإعاقة البصرية، فحفظ القرآن الكريم كاملاً في سن صغيره ، كان رحمه الله متخلقاً بآداب التلاوة وأخلاق القرآن ، عالماً بالتجويد وعلوم القراءات، شهد له شيوخه بالتفوق على أقرانه المبصرين. وحصل ثلاثة إجازات من الأزهر وشهادة شكر من الشيخ محمد على زينل صاحب مدارس الفلاح في المملكة السعودية والهند وعدة ايجازات من مشايخ الوطن العربي كلها تؤكد أنه أفضل قارئ في الحجاز ورائد القراءة الحجازية. روى العديد من أصدقائه، ومنهم الشيخ إسحاق البشاوري والشيخ زكي داغستاني أنه اتصف دوماً بالكرم، على الرغم من أنه قاسى في صباه مرارة العيش مع فقدان البصر لكي يكسب عيشه بكسب يده.
كان رحمه الله محبوباً من الجميع، يحب الخير للآخرين، أما مدرسته في قراءة القرآن الكريم فجذبت إليه آلاف المحبين، لاسيما أنه كان يجيد القراءات العشرة، وتميزت تلاوته بالقراءة الحجازية التي تميز أهل المدينتين المقدستين، فاستطاع أن يبرز ويرسخ أقدامه في وقت لم يكن لوسائل الإعلام تأثير كبير وواضح كما الحال في هذا العصر. وحينما أرادت إذاعة القرآن والتليفزيون السعوديين التسجيل مع الشيخ عباس مقادمي وهو يتلو القرآن الكريم صوتاً وصورة، رفض ذلك بشدة مخافة أن يكون في ذلك محظور شرعي، لكنه عدل عن رأيه حينما استيقن جواز الأمر، فوافق على التسجيل لاسيما بعد أن أقنعه القائمون على الأمر بأنه سينقل تلاوته إلى أجيال وأجيال إلى مئات السنين.
بعدها وافق أيضاً على التسجيل لإذاعة "أرامكو" فكان أول قارئ فيها. وفي 12/ 5/1373هـ وذهب إلى الهند في مهمة تدريس، فكان - رحمة الله - أول قارئ سعودي يتردد صوته بالتنزيل الحكيم في الإذاعة الهندية، ومكث في الهند أربعة أعوام يعلم القرآن الكريم ويصدع بآياته آناء الليل وأطراف النهار دون أن يرده عن ذلك وهن ولا يمنعه فقدان بصر (انشغل بآخرته) على الرغم من المكانة الواسعة التي أكتسبها الشيخ عباس مقادمي، وعلى الرغم من أنه عُهد إليه بافتتاح جميع المناسبات المحلية والدولية التي تقام بمكة المكرمة بما تيسر له من آيات الذكر الحكيم، إلا أنه لم ينشغل بذلك عن آخرته، فلم يكن حريصاً على الدنيا كما حرصه على الآخرة، لذا خصص لنفسه ورداً من القرآن الكريم وجلسات الذكر اليومية، كما كان حريصاً على زيارة المقابر للموعظة والتذكير، ومما يؤثر عنه أنه كان يدعو لهؤلاء الموتى بأسمائهم، موقناً بأنه سيكون معهم في يوم من الأيام، وقد توفي رحمه الله عن 69 عاما في محل صديقه الشيخ إسحاق أبو الحسن البشاوري للنظارات بمكة بتاريخ 27/7/1411هـ.
قرأ الشيخ عباس مقادمي القرآن الكريم في الحرم المكي بحضور شيخ القراء الشيخ أحمد حجازي وقراء الحجاز و الشيخ عبدا لباسط عبدا لصمد الذي أعرب عن انبهاره بالأداء المتميز لشيخ المقادمي، مؤكداً أنه استطاع أن يتنقل بأسلوبه تنقلات تصعب على غيره، ووصفه بأنه أستاذ التلاوة الحجازية. كتبت عنه الصحف المحلية والدولية والمجلات وصفته هذه الصحف بأنه رائد القراءات الحجازية ، رحمه الله رحمة واسعة وألحقه بالصالحين.